البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ} (79)

ويل : الويل مصدر لا فعل له من لفظه ، وما ذكر من قولهم .

وأل مصنوع ، ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا : ويل ، وويح ، وويس ، وويب ، ولا يثني ولا يجمع .

ويقال : ويله ، ويجمع على ويلات .

قال :

فقالت لك الويلات إنك مرجلي***

وإذا أضيف ويل ، فالأحسن فيه النصب ، قال تعالى : { ويلكم لا تفتروا على الله كذباً } وزعم بعض أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب ، وإذا أفردته اختير الرفع ، قال : { فويل للذين } ، ويجوز النصب ، قال :

فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر***

والويل : معناه الفضيحة والحسرة ، وقال الخليل : الويل : شدة الشر ، وقال المفضل وابن عرفة : الويل : الحزن ، يقال : تويل الرجل : دعا بالويل ، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه .

وقال غيره : الويل : الهلكة ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، وقال الأصمعي : هي كلمة تفجع ، وقد يكون ترحماً ، ومنه :

ويل أمه مسعر حرب***

الأيدي : جمع يد ، ويد مما حذف منه اللام ، ووزنه فعل ، وقد صرح بالأصل .

قالوا : يدي ، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة ، قالوا : قطع الله أديه ، وأبدلوا منها أيضاً جيماً ، قالوا : لا أفعل ذلك جد الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهي حقيقة في الجارحة ، مجاز في غيرها .

وأما الأيادي فجمع الجمع ، وأكثر استعمال الأيادي في النعم ، والأصل : الأيدي ، استثقلنا الضمة على الياء فحذفت ، فسكنت الياء ، وقبلها ضمة ، فانقلبت واواً ، فصار الأيد .

وكما قيل في ميقن موقن ، ثم إنه لا يوجد في لسانهم واو ساكنة قبلها ضمة في اسم ، وإذا أدى القياس إلى ذلك ، قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة قبلها كسرة ، فصار الأيدي .

وقد تقدم الكلام على اليد عند الكلام على قوله : { لما بين يديها }

الكسب : أصله اجتلاب النفع ، وقد جاء في اجتلاب الضر ، ومنه : بلى من كسب سيئة ، والفعل منه يجيء متعدياً إلى واحد ، تقول : كسبت مالاً ، وإلى اثنين تقول : كسبت زيداً مالاً .

وقال ابن الأعرابي ؛ يقال : كسب هو نفسه وأكسب غيره ، وأنشد :

فأكسبني مالاً وأكسبته حمداً***

{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } الآية .

قيل : نزلت في الذين غيروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدّلوا نعته ، فجعلوه آدم سبطاً طويلاً ، وكان في كتابهم على الصفة التي هو بها ، فقالوا لأصحابهم وأتباعهم : انظروا إلى صفة هذا النبي الذي يبعث في آخر الزمان ، ليس يشبه نعت هذا ، وكانت الأحبار من اليهود يخافون أن يذهب مأكلتهم بإبقاء صفة النبي صلى الله عليه وسلم على حالها ، فلذلك غيروها .

وقيل : خاف ملوكهم على ملكهم ، إذا آمن الناس كلهم ، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل ، وكشطوها من التوراة ، وكتبوا بأيديهم كتاباً ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا .

وقيل : نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ، ولم يتبعوا كتاباً ، بل كتبوا بأيديهم كتاباً ، وحللوا فيه ما اختاروا ، وحرموا ما اختاروا ، وقالوا : هذا من عند الله .

وقال أبو مالك : نزلت في عبد الله بن سعد بن سرح ، كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يغيره فارتد .

وقد تقدم شرح ويل عند الكلام على المفردات ، وذكر عن عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه جبل من نار جهنم ، وذكر أن أبا سعيد روى : أنه واد في جهنم بين جبلين ، يهوي فيه الهاوي ، وذكر أن سفيان وعطاء بن يسار رويا أنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار .

وحكى الزهراوي وجماعة : أنه باب من أبواب جهنم .

وقيل : هو صهريج في جهنم .

وقيل ، عن سعيد بن جبير ، إنه واد في جهنم ، لو سجرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره ، ولو صح في تفسير الويل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لوجب المصير إليه .

وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن ، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير ، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة ، وهو نكرة فيها معنى الدعاء ، فلذلك جاز الابتداء بها ، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة ، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً ، وذكرناها في كتاب ( منهج المسالك ) من تأليفنا .

والكتابة معروفة ، ويقال أول من كتب بالقلم إدريس ، وقيل : آدم .

والكتاب هنا قيل : كتبوا أشياء اختلقوها ، وأحكاماً بدلوها من التوراة حتى استقر حكماً بينهم .

وقيل : كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبنوها في سفهائهم ، وفي العرب ، وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل ، وصار سفهاؤهم ، ومن يأتيهم من مشركي العرب ، إذا سألوهم عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقولون : ما هو هذا الموصوف عندنا في التوراة المبدلة المغيرة ، ويقرأُوها عليهم ويقولون لهم : هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً .

بأيديهم : تأكيد يرفع توهم المجاز ، لأن قولك : زيد يكتب ، ظاهره أنه يباشر الكتابة ، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز ، ويكون آمراً بذلك ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب ، وإنما المعنى : أمر بالكتابة ، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب .

وقد قال تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمنك إذاً لارتاب المبطلون } ونظير هذا التأكيد { يطير بجناحيه } ، { ويقولون بأفواههم } ، وقوله :

نظرت فلم تنظر بعينيك منظراً***

فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله .

وفي هذا التأكيد أيضاً تقبيح لفعلهم ، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير ، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم ، واجترحوه بأيديهم .

وقال ابن السرّاح : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، من غير أن ينزل عليهم .

انتهى كلامه .

ولا يدل على ما ذكر ، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق ، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها ، التقدير : يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفاً ، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم : { يقولون هذا من عند الله } ، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه ، فلذلك قدرنا هذه الحال .

{ ثم يقولون } : أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم ، ومعمول القول هذه الجملة التي هي : { هذا من عند الله ليشتروا } ، علة في القول ، وهي لام كي ، وقد تقدم الكلام عليها قبل .

وهي مكسورة لأنها حرف جر ، فيتعلق بيقولون .

وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار ، وبنو العنبر يفتحون لام كي ، قال مكي في إعراب القرآن له .

{ به ثمناً قليلاً } ، به : متعلق بقوله : ليشتروا ، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم : { هذا من عند الله } ، وهو المكتوب المحرّف .

وتقدّم القول في الاشتراء في قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } والثمن هنا : هو عرض الدنيا ، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم ، ووصف بالقلة لكونه فانياً ، أو حراماً ، أو حقيراً ، أو لا يوازنه شيء ، لا ثمن ، ولا مثمن .

وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله ، وضموا إلى ذلك حب الدنيا .

وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف ، وعلى إسناده إلى الله تعالى .

وكلاهما منكر ، والجمع بينهما أنكر .

وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل ، وإن كان برضا المعطي .

{ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل مما يكسبون } : كتابتهم مقدمة ، نتيجتها كسب المال الحرام ، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما ، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط .

فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك .

وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام ، وهو الأليق بمساق الآية .

وقيل : المراد بما يكسبون الأعمال السيئة ، فيحتاج في كلا القولين إلى اختصاص ، لأن ما يكسبون عام ، والأولى أن يقيد بما ذكرناه .

/خ82