فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ} (79)

{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون } .

{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } الويل الهلاك قال الفراء الأصل في الويل وي أي حزن كما تقول وي لفلان أي حزن له فوصلته العرب باللام ، وقال الخليل ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويب ، وكله متقارب في المعنى ، وقد فرق بينهما قوم وهي مصادر لم تنطق العرب بأفعالها وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء ، وقال ابن عباس الويل شدة العذاب ، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره " أخرجه الترمذي ، وقال حديث غريب ، والخريف السنة ، والكتابة معروفة والمعنى أنهم يكتبون الكتاب المحرف ولا يبينون ولا ينكرونه على فاعله أو ما يكتبونه من التأويلات الزائفة ، وقوله { بأيديهم } تأكيد لأن الكتابة لا تكون إلا باليد ، فهو مثل قوله { ولا طائر يطير بجناحيه } وقوله { يقولون بأفواههم } قال ابن السراج هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم ، وفيه أنه قد دل على أنه من تلقائهم قوله { يكتبون الكتاب } فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك .

{ ثم يقولون هذا } أي جميعا على الأول وبخصوصه على الثاني وثم للتراخي الرتبي فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل { من عند الله ليشتروا به } أي بما كتبوا { ثمنا قليلا } أي المآكل والرشاء ، والاشتراء الاستبدال ووصفه بالقلة لكونه فانيا لا ثواب فيه أو لكونه حراما لا تحل به البركة فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف ، ولا بالكتابة لذلك المحرف حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله لينالوا بهذه المعاصي المتكررة هذا العرض المزر ، والعوض الحقير ، واستدل به النخعي على كراهة كتابة المصحف بالأجرة .

{ فويل لهم مما كتبت أيديهم } تأكيد لقوله { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } ومع ذلك فيه نوع مغايرة لأن هذا وقع تعليلا فهو مقصود وذلك وقع صلة فهو غير مقصود ، والكلام في هذا كالذي فيما قبله من جهة أن التكرير للتأكيد { وويل لهم مما يكسبون } قيل من الرشاء ونحوها وقيل من المعاصي ، وكرر الويل تغليظا عليهم وتعظيما لفعلهم وهتكا لأستارهم . وقال السعد التفتازاني : إنما كرر ليفيد أن الهلاك مرتب على كل واحد من الفعلين على حدة لا على مجموع الأمرين ، والكسب مسبب فجاء النظم على هذا الترتيب .

وقد ذكر صاحب الدر المنثور آثارا عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية ، ولا دلالة فيها على ذلك ، ثم ذكر آثارا عن جماعة منهم أنهم جوزوا ذلك ولم يكرهوه .