الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ} (79)

قولُه تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ } . . وَيْلٌ مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كانَ نكرةً لأنه دعاءٌ عليهم ، والدعاءُ من المسوِّغاتِ سواءً كان دعاءً له نحو : " سلامٌ عليكم ، أو عليه كهذه الآية ، والجارُّ بعده الخبرُ فيتعلًّقُ بمحذوف . وقال أبو البقاء : " ولو نُصِبَ لكانَ له وجهٌ على تقدير : أَلْزَمَهم الله ويلاً ، واللامُ للتبيين لأنَّ الاسمَ لم يُذْكَرْ قَبْلَ المصدر " يعني أنَّ اللامَ بعد المنصوبِ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وقولُه : " لأنَّ الاسم " يعني أنه لو ذُكِرَ قبلَ " ويلَ " فقلت : " ألزم الله زيداً ويلاً " لم يَحْتَجْ إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر ، وعبارةُ الجَرْميّ توهم وجوبَ الرفعِ في المقطوعِ عن الإضافة ، ونَصَّ الأخفش على جوازِ النصبِ فإنه قال : " ويجوزُ النصبُ على إضمار فعلٍ أي : أَلْزمهم الله ويلاً " .

واعلم أن ويلاً وأخواتِه وهي : وَيْح ووَيْس ووَيْب وعَوْل من المصادرِ المنصوبةِ بأفعالٍ من غير لفظِها ، وتلك الأفعالُ واجبةُ الإِضمارِ ، لا يجوز إظهارُها البتة أنها جُعِلَتْ بدلاً من اللفظ بالفعلِ ، وإذا فُصِل عن الإِضافةِ فالأحسنُ فيه الرفعُ ، نحوَ : " وَيْلٌ له " وإن أُضِيفَ نُصِبَ على ما تقدَّم ، وإن كان عِبارةُ الجرميّ توهُم وجوبَ الرفعِ عند قَطْعِه عن الإِضافة فإنه قال : " فإذا أَدْخَلْتَ اللامَ رَفَعْتَ فقلت : ويلٌ له ، وَوَيْحٌ له " كأنه يُريد على الأكثر ، ولم يَسْتعمل العربُ منه فعلاً لاعتلالِ عينه وفائِه ، وقد حَكى ابن عرفة : " تَوَيَّلَ الرجلُ " إذا دَعا بالوَيْل ، وهذا لا يَرُدُّ ، لأنه مثلُ قولهم : " سَوَّفْتَ ولَوْلَيْتَ " إذا قلتَ : له سوفَ ولو .

ومعنى الوَيْلِ شِدَّةُ الشر قاله الخليل ، وقال الأصمعي : الوَيْلُ : التفجُّع ، والوَيْل : الترحُّم . وقال سيبويه : " وَيْل ، لِمَنْ وَقَعَ في الهَلَكَة ، ووَيْحٌ زَجْرٌ لمَنْ أَشْرَفَ على الهَلاك " وقيل : الويلُ الحُزن ، وهل ويْل ووَيْح ووَيْس ووَيْب بمعنى واحد أو بينها فرقٌ ؟ خلافٌ ، وقد تقدَّم ما فرَّق به سيبويه في بعضِها . وقال قومٌ : وَيْلٌ في الدُّعاء عليه ، ووَيْحٌ وما بعدَه ترحُّمٌ عليه . وزعم الفرّاء أن أصلَ وَيْل : وَيْ أَي حُزْن ، كما تقول : وَيْ لفلان ، أي حُزْن له ، فَوَصَلَتْه العربُ باللام ، وقَدَّرَتْ أنَّها منه فَأَعْرَبوها وهذا غريبٌ جداً . ويقال : وَيْل وويلَة بالتاء ، وقال امروء القيس :

له الويلُ إنْ أَمْسى ولا أمُّ عامرٍ *** لَدَيْهِ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يَشْكُرا

وقال أيضاً :

ويومَ دَخَلْتَ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ *** فقالَتْ : لَكَ الوَيْلاتُ إنَّك مُرْجِلي

فويلات جمع وَيْلَة لا جمعُ وَيْل كما زَعَم ابن عطية/ لأنَّ جمعَ المذكر بالألفِ والتاءِ لا يَنقَاسُ .

قوله { بِأَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بيكُتبون ، ويَبْعُدُ جَعْلُه حالاً من " الكتاب " ، والكتابُ هنا بمعنى المكتوب ، فنصبُه على المفعولِ به ، ويَبْعُدُ جَعْلُهُ مصدراً على بابِه ، وهذا من بابِ التأكيد فإن الكُتْبَةَ لا تكون بغير اليدِ ، ونحوُه : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] . وقيل : فائدةُ ذكره أنَّهم باشَرُوا ذلك بأنفسِهم ولم يَأَمُروا به غيرَهم ، فإنَّ قولَك : فَعَلَ فلانٌ كذا يَحْتملُ أنه أمر بفعلِه ولم يُباشِرْه ، نحو : بنى الأميرُ المدينةَ ، فأتى بذلِك رَفْعاً لهذا المجازِ . وقيل : فائدتُه بيانُ جُرْأَتِهم ومُجَاهَرَتِهم ، فإنَّ المباشِرَ للفعل أشدُّ مواقعةً مِمَّنْ لم يباشِرْه . وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإنَّ أصلَ التأكيدِ رفْعُ توهُّمِ المجاز . وقال ابن السَّرَّاج : " ذِكْرُ الأيدي كنايةٌ عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلقائهم ومِنْ عندِ أنفسِهم " وهذا الذي قاله لا يَلْزَمُ .

والأيدي جمعُ يَدٍ ، والأصلُ : أَيْدُيٌ بضمِّ الدالِ كفَلْس وأَفْلُس في القلة فاستُثْقِلَت الضمةُ قبل الياءِ فَقُلِبَت كسرةً للتجانسِ نحو : بِيْض جمعَ أَبْيض ، والأصلُ : بُيْض بضم الياء كحُمْر جمع أَحْمر ، وهذا رأيُ سيبويه ، أعني أنه يُقِرُّ الحرفَ ويُغَيِّر الحركةَ ومذهبُ الأخفشِ عكسُه ، وسيأتي تحقيقُ مذهَبَيْهما عند ذِكْرِ " معيشة " إنْ شاء الله تعالى .

وأصل يَد : يَدْي بسكونِ العَيْنِ ، وقيل : يَدَي بتحريكِها ، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتَح ما قبلَه فقُلِب ألفاً فصارَ يداً كَرَحَىً ، وعليه التثنيةُ : يديان ، وعليه أيضاً قوله :

يا رُبَّ سارٍ باتَ لن يُوَسَّدا *** تحتَ ذِراعِ العَنْسِ أو كفَّ اليَدا

والمشهورُ في تثنيتها عَدَمُ ردِّ لامِها ، قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }

[ المائدة : 64 ] { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] ، وقد شَذَّ الردُّ في قوله : " يَدَيانِ :

يَدَيَان بَيْضَاوان عِندَ مُحَلِّمٍ *** قد يَمْنَعانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرا

وأيادٍ جمعُ الجمعِ نحو : كَلْبَ وأَكْلُب وأكالب . ولا بدَّ في قوله : { يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ } مِنْ حَذْفٍ يَصِحُّ معه المعنى ، فقدَّره الزمخشري : " يكتبونَ الكتابَ المحرَّفَ " وقدَّرَه غيرُه حالاً من الكتاب تقديرُه : يكتُبون الكتابَ مُحَرَّفاً ، وإنما أَحْوَجَ إلى هذا الإِضمارِ لأنَّ الإِنكارَ لاَ يَتَوَجَّهُ على مَنْ كَتَب الكتاب بيده إلا إذا حَرَّفه وغَيَّره .

قوله : { لِيَشْتَرُواْ } اللامُ لامُ كي ، وقد تقدَّمت . والضميرُ في " به " يعودُ على ما أشاروا إليه بقولِهم : { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } و " ثمناً " مفعولُه ، وقد تقدَّم تحقيقُ دخولِ الباءِ على غيرِ الثمن عند قولِه : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] فَلْيُلْتَفَتْ إليه ، واللامُ متعلقةٌ بيقولون ، أي : يقولونَ ذلك لأجلِ الاشتراءِ . وأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَها متعلقةً بالاستقرارِ الذي تضمَّنه قولُه { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } .

قوله : { مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بوَيْل أو بالاستقرارِ في الخبر ، و " مِنْ " للتعليلِ ، و " ما " موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ ، ويجوزُ أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس كقوةِ الأولِ والعائدُ أيضاً محذوفٌ أي : كَتَبَتْهُ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : مِنْ كَتْبِهم ، و { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } مثلُ ما تقدَّم قبلَه ، وإنما كرَّر " الوَيْل " ليُفيدَ أنَّ الهَلَكَة متعلقةٌ بكلِّ واحدٍ من الفِعْلَيْنِ على حِدَتِه لا بمجموعِ الأمرَيْنِ ، وإنَّما قَدَّم قولَه : " كَتَبَتْ " على " يَكْسبون " لأن الكتابةَ مُقَدَّمةٌ فنتيجتُها كسبُ المالِ ، فالكَتْبُ سببٌ والكسبُ مُسَبَّبٌ ، فجاء النَّظْمُ على هذا .