قوله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ } " ويل " مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة ، لأنه دعاء عليهم ، والدعاء من المسوغات ، سواء كان دعاء له نحو : " سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ " أو دعاء عليه كهذه الآية ، والجار بعده الخبر ، فيتعلّق بمحذوف .
وقال أبو البقاء : ولو نصب لكان له وجه على تقدير : ألزمهم الله ويلاً ، واللام للتبيين ؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني : أن اللام بعد المنصوب للبيان ، فيتعلّق بمحذوف . وقوله : لأن الاسم لم يذكر قبل ، يعني أنه لو ذكر قبل " ويل " فقلت : " ألزم الله زيداً ويلاً " لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر . وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة ؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب ، فإنه قال : ويجوز النصب على إضمار فعل أي : ألزمهم الله ويلاً .
واعلم أن " وَيْلاً " وأخواته وهي : " وَيْح " و " وَيْس " و " وَيْب " و " وَيْه " و " ويك " و " عَوْل " من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها ، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار ، لا يجوز إظهارها ألبتة ؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل ، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحو : " ويل له " وإن أضيف نصب على ما تقدم ، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة ، فإنه قال : فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت : " ويل له " و " ويح له " كأنه يريد على الأكثر ، ولم يستعمل العرب منه فعلاً ؛ لاعتلال عينه وفائه . وقد حكى ابن عرفة{[14]} : " تَوَيَّلَ الرجل " إذا دعا بالوَيْلِ . وهذا لا يرد ؛ لأنه مثل قولهم : سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له : سَوْفَ وَلَوْ .
ومعنى الويل : شدة الشر ، قاله الخليل .
وقال الأَصْمَعِيّ : الويل : التفجُّع ، والويح : الترحم .
وقال سيبويه{[15]} : وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة ، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك .
وهل " ويل وويح وويس وويب " بمعنى واحد أو بينها فرق ؟ خلاف فيه ، وقد تقدم ما فرق به سيبويه في بعضها .
وقال قوم : " ويل " في الدعاء عليه ، و " ويح " وما بعده ترحم عليه .
وزعم الفراء أنّ أَصْل " ويل " : وَيْ ، أي : حزن ، كما تقول : وي لفلان أي حُزْنٌ له ، فوصلته العرب باللاّم ، وقدرت أنها منه فأعربوها ، وهذا غريب جدًّا .
607- لَهُ الوَيْلُ إنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ{[16]} *** لَدَيْه{[17]} وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا{[18]}
608- وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ *** فَقَالَتْ : لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي{[19]}
ف " وَيْلات " جمع " وَيْلة " لا جمع " وَيْل " كما زعم ابن عطية ؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس .
قال ابن عباس رضي الله عنه : " الويل العذاب الأليم " ، وعن سفيان الثوري أنه قال : " صديد أهل جهنم " . وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ " {[20]} ]{[21]} .
وقال سعيد بن المسيب : " وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره " {[22]} .
وقال ابن يزيد : " جبل من قَيْح ودم " .
وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جَهَنّم .
وعن ابن عباس : الويل المشقّة من العذاب .
قوله : " بِأَيْدِيْهِمْ " متعلّق ب " يكتبُون " ، ويبعد جعله حالاً من " الكتاب " ، والكتاب هنا بمعنى المكتوب ، فنصبه على المفعول به ، ويبعد جعله مصدراً على بابه ، وهذا من باب التأكيد ، فإن [ الكتابة ]{[23]} لا [ تكون ]{[24]} بغير اليد ، [ ونظيره ]{[25]} : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] { يقولون بأفواههم } [ آل عمران : 167 ] .
وقيل : فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم ، فإن قولهم : فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره ، نحو : " بنى الأمير المدينة " فأتى بذلك رفعا لهذا المجاز .
وقيل : فائدة [ ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم . ففائدته ]{[26]} بيان جرأتهم ومجاهرتهم ، فإن المباشر للفعل أشد مواقعة ممن لم يباشره .
وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإن أصل التأكيد رفع توهم المجاز .
وقال ابن السراج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، وهذا الذي قاله لا يلزم .
والأيدي : جمع " يد " ، والأصل : أيدي بضم الدال ك " فلس وأفلس " في القلة ، فاستثقلت الضمة قبل الياء ، فقبلت كسرة للتجانس ، نحو : " بيض " جمع " أبيض " ، والأصل " بيض " بضم الباء ك " حمر " جمع " أحمر " ، وهذا رأي سيبويه ، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة ، ومذهب الأخفش عكسه ، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر " معيشة " إن شاء الله تعالى .
وأصل : " يد " : يدي- بسكون العين .
وقيل : يدي- بتحريكها- فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، فصار : يدا ك " رحى " ، وعليه التثنية : يديان [ وعليه أيضا قوله :
609- يا رب سار بات ما توسدا *** إلا ذراع العنز أو كف اليدا{[27]} ]{[28]} .
[ والمشهور في تثنيتها عدم رد لامها ، قال تعالى : { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة : 64 ] { تبت يدا أبي لهب وتب } [ المسد : 1 ] وقد شذ الرد في قوله : يديان ؛ قال : [ الكامل ]
610- يديان بيضاوان عند محلم *** قد يمنعانك أن تضام وتقهرا{[29]}
و " أياد " جمع الجمع ، نحو : كلب وأكلب وأكالب ، ولا بد في قوله : " يكتبون الكتاب " من حذف يصح معه المعنى ، فقدره الزمخشري : " يكتبون الكتاب المحرف " ، وقدره غيره حالا من الكتاب تقديره : ويكتبون الكتاب محرفا ، وإنما [ أحوج ]{[30]} إلى هذا الإضمار ؛ لأن الإنكار لا يتوجه على من كتب الكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره .
قوله : " ليشتروا " اللام : لام كي ، وقد تقدمت ، والضمير في " به " يعود على ما أشاروا إليه بقوله " هذا من عند الله " .
وقد تقدم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } [ البقرة : 41 ] فليلتفت إليه ، واللام متعلقة ب " يقولون " أي : يقولون ذلك لأجل الاشتراء .
وأبعد من جعلها متعلقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله : " من عند الله " .
قوله : " مما كتبت أيديهم " متعلق ب " ويل " أو بالاستقرار في الخبر .
و " من " للتعليل و " ما " موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة .
والأول أقوى ، والعائد أيضاً محذوف أي : كتبته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : من كَتْبِهِمْ .
و { وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } مثل ما تقدم قبله ، وإنما كرر الوَيْل ؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين ، وإنا قدم قوله : " كَتَبَتْ " على " يَكْسِبُون " ؛ لأن الكتابة مقدمة ، فنتيجتها كَسْب المال ، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب ، فجاء النظم على هذا .
هذا الوعيد مرتّب على أمرين : على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال ، وعلى أن المكتوب من عند الله ، فالجمع بينهما منكر عظيم .
وقوله : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } تنبيه على أمرين :
الأول : أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم ؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة .
والثاني : إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ ، وهذا يدلّ على أن أَخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم ؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا .
وقوله : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } دليل على أخذهم المال عليه ، فلذلك كرر [ ذكر ]{[31]} الويل .
واختلفوا في قوله : " يَكْسِبُونَ " هل المراد سائر معاصيهم ، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف ؟
والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف ، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل .
قال القاضي : دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم : " هو من عند الله " حقيقة ؛ لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب ، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العَبْدِ ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها : إنها من عند الله ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى .
والجواب : أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي .
يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم " المدينة " فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فغيّروها ، وكان صفته فيها حَسَن الوجه ، حَسَن الشعر ، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر ، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صلى الله عليه وسلم قرءوا ما كتبوه عليهم ، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه{[32]} .
وقال أبو مَالِكٍ : نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيغير ما يملي عليه .
روى الثعلبي بإسناده " عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد قرأ " البقرة " و " آل عمران " وكان النبي صلى الله عليه وسلم تلا " غفوراً رحيماً " فكتب " عليماً حكيماً " فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : " اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ " قال : فارتد ذلك الرجل عن الإسلام ، ولحق بالمشركين فقال : أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت ، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ{[33]} " قال : فأخبرني أبو طَلْحَة : أنه أتى الأرض التي مات فيها ، فوجده منبوذاً .
قال أبو طلحة : ما شأن هذا الميت ؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض .