المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

29- محمد رسول الله وأصحابه الذين معه أشداء أقوياء على الكفار ، متراحمون ، متعاطفون فيما بينهم ، تُبصرهم راكعين ساجدين كثيرا ، يرجون بذلك ثوابا عظيما من الله ورضوانا عميما ، علامتهم خشوع ظاهر في وجوههم من أثر الصلاة كثيرا ، ذلك هو وصفهم العظيم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج أول ما ينشق عنه ، فآزره ، فتحول من الدقة إلى الغلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجب الزراع بقوته ، وكان المؤمنون كذلك ، ليغيظ الله بقوتهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة تمحو جميع ذنوبهم ، وثوابا بالغا غاية العظم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

قوله تعالى : { محمد رسول الله } تم الكلام ها هنا ، قاله ابن عباس ، شهد له بالرسالة ، ثم قال مبتدئاً : { والذين معه } قالوا وفيه " واو " فيه للاستئناف ، أي : والذين معه من المؤمنين ، { أشداء على الكفار } غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ، { رحماء بينهم } متعاطفون متوادون بعضهم لبعض ، كالولد مع الوالد ، { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ( المائدة-54 ) { تراهم ركعاً سجداً } أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ، { يبتغون فضلاً من الله } أن يدخلهم الجنة ، { ورضواناً } أن يرضى عنهم ، { سيماهم } أي : علامتهم ، { في وجوههم من أثر السجود } اختلفوا في هذا السيما : فقال قوم : هم نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا ، وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقال آخرون : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع . وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال : ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . وهو قول مجاهد ، والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به . وقال الضحاك : هو صفرة الوجه من السهر . وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . قال عكرمة وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على الجباه . قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس . { ذلك } الذي ذكر ، { مثلهم } صفتهم { في التوراة } ها هنا تم الكلام ، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل ، فقال : { ومثلهم } صفتهم ، { في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } قرأ ابن كثير ، وابن عامر : شطأه بفتح الطاء ، وقرأ الآخرون بسكونها ، وهما لغتان كالنهر والنهر ، وأراد فراخه ، يقال : أشطأ الزرع فهو مشطئ ، إذا فرخ ، قال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه . وقال السدي : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى . قوله : { فآزره } قرأ ابن عامر : فأزره بالقصر والباقون بالمد ، أي : قواه وأعانه وشد أزره ، { فاستغلظ } ذلك الزرع ، { فاستوى } أي : تم وتلاحق نباته وقام ، { على سوقه } أصوله ، { يعجب الزراع } أعجب ذلك زراعه . هذا مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون . قال قتادة : مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقيل : الزرع محمد الشطء : أصحابه والمؤمنون . وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : { محمد رسول الله والذين معه } : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، { أشداء على الكفار } عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، رحماء بينهم عثمان رضي الله عنه ، تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يبتغون فضلاً من الله بقية العشرة المبشرين بالجنة . وقيل : { كمثل زرع } محمد ، { أخرج شطأه } أبو بكر { فآزره } عمر { فاستغلظ } عثمان ، للإسلام { فاستوى على سوقه } علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ، يعجب الزراع قال : هم المؤمنون . { ليغيظ بهم الكفار } قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا تعبدوا الله سراً بعد اليوم .

حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاءً ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي ، حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ، حدثنا رجاء بن قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي في الجنة ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجراح ، في الجنة " .

حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد النعيمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم ، حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي ، حدثنا قطبة بن العلاء ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الخزاعي ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياءً عثمان ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " . ورواه معمر عن قتادة مرسلاً وفيه : " وأقضاهم علي " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء : حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال : فأتيه فقلت : أي الناس أحب إليك . قال : عائشة ، فقلت : من الرجال . فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، فعد رجالاً فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم " . أخبرنا أبو منصور عبد المالك ، وأبو الفتح نصر بن الحسين ، أنبأنا علي بن أحمد ابن منصور بن محمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قال : حدثنا أبو الحسن محمد ابن كيسان النحوي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن سلمة ، عن أبي الزهراء ، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي : أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن أحدً ارتج وعليه محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : " اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، أنبأنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : " عهد إلي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق " .

أخبرنا أبو المظفر التميمي ، أنبأنا عبد الرحمن بن عثمان ، أنبأنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة " . قوله عز وجل : { ليغيظ بهم الكفار } أي : إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين . قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .

أنبأنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي ، حدثنا أبو معمر المفضل بن إسماعيل ، أنبأنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرني الهيثم بن خلف الدوري ، حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " .

حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أنبأنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة ، أنبأنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعرياني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة ، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إسكاف ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني ، عن أبيه ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قوماً ينتحلون حبك يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، نبزهم الرافضة ، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون " في إسناد هذا الحديث نظر . وقول الله عز وجل : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } قال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، ورد الهاء والميم لفظه على معنى الشطء { مغفرة وأجراً عظيماً } يعني الجنة والله اعلم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

{ 29 } { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }

يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، أنهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال ، وأنهم { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } أي : جادون ومجتهدون في عداوتهم ، وساعون في ذلك بغاية جهدهم ، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة ، فلذلك ذل أعداؤهم لهم ، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون ، { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } أي : متحابون متراحمون متعاطفون ، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ، هذه معاملتهم مع الخلق ، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } أي : وصفهم كثرة الصلاة ، التي أجل أركانها الركوع والسجود .

{ يَبْتَغُونَ } بتلك العبادة { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } أي : هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه .

{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } أي : قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم ، حتى استنارت ، لما استنارت بالصلاة بواطنهم ، استنارت [ بالجلال ] ظواهرهم .

{ ذَلِكَ } المذكور { مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } أي : هذا وصفهم الذي وصفهم الله به ، مذكور بالتوراة هكذا .

وأما مثلهم في الإنجيل ، فإنهم موصوفون بوصف آخر ، وأنهم في كمالهم وتعاونهم { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ } أي : أخرج فراخه ، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء .

{ فَاسْتَغْلَظَ } ذلك الزرع أي : قوي وغلظ { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } جمع ساق ، { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } من كماله واستوائه ، وحسنه واعتداله ، كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه ، وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه ، من إقامة دين الله والدعوة إليه ، كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ ، ولهذا قال : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم ، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال ، ومعامع القتال .

{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } فالصحابة رضي الله عنهم ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، قد جمع الله لهم بين المغفرة ، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة .

ولنسق قصة الحديبية بطولها ، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في { الهدي النبوي } فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة ، وتكلم على معانيها وأسرارها ، قال -رحمه الله تعالى : -

فصل في قصة الحديبية

قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري ، وقتادة ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق وغيرهم .

وقال هشام بن عروة ، عن أبيه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ، وهذا وهم ، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان . قال أبو الأسود عن عروة : إنها كانت في ذي القعدة على الصواب .

وفي الصحيحين عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، فذكر منهن عمرة الحديبية ، وكان معه ألف وخمسمائة ، هكذا في الصحيحين عن جابر ، وعنه فيهما : كانوا ألفا وأربعمائة ، وفيهما ، عن عبد الله بن أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة ، قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال : خمس عشرة مائة ، قال : قلت : فإن جابر بن عبد الله قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال : يرحمه الله وهم ، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قلت : وقد صح عن جابر القولان ، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة ، البدنة عن سبعة ، فقيل له : كم كنتم ؟ قال : ألفا وأربعمائة ، بخيلنا ورجلنا ، يعني : فارسهم وراجلهم .

والقلب إلى هذا أميل ، وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع ، في أصح الروايتين ، وقول المسيب بن حزن ، قال شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وغلط غلطا بينا من قال : كانوا سبعمائة ، وعذره{[790]}  أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة ، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة ، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل ، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة ، فلو كانت السبعون عن جميعهم ، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا ، وقد قال بتمام الحديث بعينه ، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة .

فصل

فلما كانوا بذي الحليفة ، قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كانوا قريبا من عسفان ، أتاه عينه ، فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت .

واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت ؟ فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فروحوا إذا " فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد ، حتى إذا هو بغبرة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش .

وسار النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها " ثم زجرها ، فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش .

فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه ، قال : فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها ، وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله ، ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي ، إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت .

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش ، وقال : " أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، إنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام "

وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان ، فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمارا ، قالوا : قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك .

وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، فأجاره ، وأردفه أبان حتى جاء مكة ، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال : " ذاك ظني به ، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة .

فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه ، وقال : " هذه عن عثمان " ولما تمت البيعة ، رجع عثمان ، فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ، فقال : بئسما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده ، لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقيم بالحديبية ، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ، فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا .

وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس ، وكان معقل بن يسار ، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول من بايعه ، أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم .

فبينما هم كذلك ، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ، في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال ، فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " قال بديل : سأبلغهم ما تقول .

فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي : منهم : هات ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد ، فاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي : محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوها ، وأرى أوباشا من الناس ، خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ قال : من ذا ؟ قال : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك .

وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف ، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه ، وقال : من ذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي : غدر ، أولست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء "

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة ، إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه .

وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ ، كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر ، تعظيما له .

فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، على كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم ، خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .

فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته .

فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " فبعثوها فاستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك ، قال : سبحان الله ، لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت .

فرجع إلى أصحابه ، فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت فقام مكرز بن حفص ، وقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر " فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد سهل لكم من أمركم " فقال : هات ، اكتب بيننا وبينك كتابا ، فدعا الكاتب ، فقال : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل : أما الرحمن ، فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتب باسمك اللهم "

ثم قال : " اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل : فوالله لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب .

فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته علينا .

فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟

فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما قاضيتك عليه ، أن ترده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا لم نقض الكتاب بعد " فقال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأجزه لي " فقال : ما أنا بمجيزه ، فقال : " بلى فافعل " قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : قد أجزناه .

فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا .

قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ قال : " بلى " قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : " إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه " قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ " قلت : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوف به "

قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه أبو بكر كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قال عمر : فعملت لذلك أعمالا .

فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا وانحروا ، ثم احلقوا " فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت : يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك ، فقام فخرج ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك ، قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءت نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة .

وفي مرجعه أنزل الله عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } إلى آخرها ، فقال عمر : أفتح هو يا رسول الله ؟ فقال : " نعم " فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟

فأنزل الله عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ }

الآية . انتهى .

ختام السورة:

وهذا آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة

[ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، نقلته من خط المفسر رحمه الله وعفا عنه ، وكان الفراغ من كتابته في 13 ذي الحجة 1345 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين .

بقلم الفقير إلى ربه سليمان بن حمد العبد الله البسام . غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ]{[1]}

المجلد الثامن من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان من به الله على عبده وابن عبده وابن أمته عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي .


[1]:- هذا التنبيه جعله الشيخ -رحمه الله- على غلاف المجلد الأول فصدرت به التفسير كما فعل -رحمه الله-.
[790]:- في ب: وعذرهم.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها ما فيها من الثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه ، الذين رضى عنهم وأرضاهم فقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ . . . } .

وقوله - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } مبتدأ وخبر ، أو { مُّحَمَّدٌ } خبر لمتبدأ محذوف ، و { رَّسُولُ الله } بدل أو عطف بيان من الاسم الشريف . أى : هذا الرسول الذى أرسله الله - تعالى - بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . { والذين مَعَهُ } وهم أصحابه - وعلى رأسهم من شهد معه صلح الحديبية ، وبايعه تحت الشجرة - من صفاتهم أنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } أى : غلاظ عليهم ، وأنهم { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } .

أى : أنهم مع إخوانهم المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتعاونون على البر والتقوى . .

وقوله - تعالى - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } فيه أسمى التكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد له - سبحانه - بهذه الصفة ، وكفى بشهادته - عز وجل - شهادة ، وحيث قدم الحديث عنه بأنه أرسله بالهدى ودين الحق ، ثم أخر اسمه الشريف على سبيل التنويه بفضله ، والتشويق إلى اسمه .

وفى وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، مدح عظيم لهم ، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس ، فهم ليسوا أشداء مطلقا ، ولا رحماء مطلقا ، وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإِخوانكم فى العقيدة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم . . . } قال صاحب الكشاف : " وعن الحسن أنه قال : " بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه . .

وأسمى من هذا كله فى بيان تراحمهم قوله - تعالى - : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . } ثم وصفهم بوصف آخر فقال : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } .

أى : تراهم وتشاهدهم - أيها العاقل - راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله - تعالى - والظفر برضاه وثوابه . .

ثم وصفهم بوصف ثالث فقال : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود . . } أى : علامتهم وهو نور يجعله الله - تعالى - فى وجوههم يوم القيامة ، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباهم فى الدنيا ، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين .

فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإِشراق والصفاء . . يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله ، وليس المقصود أن هناك علامة معينة - كالنكتة التى تكون فى الوجه - كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان .

واختار - سبحانه - لفظ السجود ، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإِخلاص لله - تعالى - .

قال الآلوسى : " أخرج من مردويه بسند حسن عن أَبَىِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فى قوله - تعالى - : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } النور يوم القيامة " .

ثم قال الآلوسى : ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم فى الدنيا والآخرة - للآثار السابقة - لكنه لما كان فى الآخرة أظهر وأتم خصه النبى - صلى الله عليه وسلم - بالذكر . .

واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة } يعود إلى جميع أوصافهم الجليلة السابقة ، والمثل هو الصفة العجيبة والقصة ذات الشأن . أى : ذلك الذى ذكرناه عن هؤلاء المؤمنين الصادقين من صفات كريمة تجرى مجرى الأمثال ، صفتهم فى التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - .

ثم بين - سبحانه - صفتهم فى الإِنجيل فقال : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع . . } .

وقوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } معطوف على ما قبله وهو مثلهم فى التوراة ، والإِنجيل : هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى - عليه السلام - .

والشط : فروع الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرغ على شاطئيه . أى : جانبيه . وجمعه : أشطاء ، وشطوء ، يقال : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فروعه التى تتولد عن الأصل .

وقوله { فَآزَرَهُ } أى : فقوت تلك الفروع أصولها ، وآزرتها ، وجعلتها مكينة ثابتة فى الأرض . وأصله من شد الإِزار . تقول أزَّرْت فلانا ، إذا شددت إزاره عليه . وتقول آزرت البناء - بالمد والقصر - إذا قويت أساسه وقواعده .

ومنه قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي } .

وقوله : { فاستغلظ } أى : فصار الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا .

وقوله : { فاستوى على سُوقِهِ } أى : فاستقم وتكامل على سيقانه التى يعلو عليها .

وقوله : { يُعْجِبُ الزراع } أى : يعجب الخبراء بالزراعة لقوته وحسن هيئته .

والمعنى : أن صفة المؤمنين فى الإِنجيل ، أنهم كالزرع ، يظهر فى أول أمره رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد ، وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها .

فكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، كانوا فى أول الأمر فى قلة وضعف ، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة ، حتى بلغوا فى ذلك .

وصدق الله إذا يقول : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قال صاحب الكشاف : " وهذا مثل ضربه الله - تعالى - لبدء أمر الإِسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قام وحده ، ثم قواه الله - تعالى - بمن معه .

كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها ما يتولد منها ، حتى يعجب الزراع .

وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه يكون وصفهم فى التوراة ، هو المعبر عنه بقوله - تعالى - : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ويكون وصفهم فى الإِنجيل هو المعبر عنه بقوله - سبحانه - : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } .

ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة فى الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا ، بل بعض هذه الأوصاف موجودة فى الكتابين ، حتى بعد تحريفهما .

فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال : " مكتوب فى الإِنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " .

ويرى بعض المفسرين أن المذكور فى التوراة والإِنجيل شئ واحد ، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة ، وما بعدها وهو قوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ . . . } كلام مستأنف .

قال القرطبى : " قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل . . } قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت : المعنى ذلك مثلهم فى التوراة وفى الإِنجيل أيضا ، كمثلهم فى القرآن ، فيكون الوقف على " الإِنجيل " .

وإن شئت قلت : تمام الكلام : ذلك مثلهم فى التوارة . ثم أبتدأ فقال : ومثلهم فى الإِنجيل .

وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما فى التوارة ، والآخر فى الإِنجيل . . .

والذى نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين ، أحدهما مذكور فى التوراة والآخر فى الإِنجيل ، هو الرأى الراجح ، لأن ظاهر الآية يشهد له .

وفى هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين .

وقوله - تعالى - : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لما يعرب عنه الكلام ، من إيجاده - تعالى - لهم على هذه الصفات الكريمة .

أى : جعلهم - سبحانه - كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار ، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم ، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات . . لكى يغيظ بهم الكفار ، فيعيشوا وفى قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين .

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل ، فقال : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .

و " من " فى قوله { مِنْهُم } الراجح أنها للبيان والتفسير ، كما فى قوله - تعالى - { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان . . } أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وهم أهل بيعة الرضوان ، ومن كان على شاكلتهم فى قوة الإِيمان . . وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - .

ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض ، لكى يخرج من هيلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر ، وهم المنافقون الذين أبوا مبايغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبوا الخروج معه للجهاد ، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ،

{ وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها : وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم ، والثناء عليهم ، لأن الله - تعالى - قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم .

قال القرطبى : " روى أبو عروة الزبيرى من ولد الزبير أنه قال : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ مالك هذه الآية : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } . فقال مالك : من أصبح من الناس فى قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية . ثم قال الإِمام القرطبى - رحمه الله - : قلت : لقد أحسن مالك فى مقالته وأصاب فى تأويله ، فمن نقص واحد منهم أو طعن عليه فى روايته ، فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين .

وبعد : فهذا تفسير لسورة " الفتح " تلك السورة التى بشرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بألوان من البشارات العالية ، وأدبتهم بأنواع من الآداب السامية ، وعرفتهم بأعدائهم من المنافقين والكافرين ، وحكت الكثير من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده المؤمنين . .

نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :

( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .

إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .

وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .

والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .

إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .

وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .

واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .

واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .

وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .

( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .

هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !

وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .

وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .

وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .

مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .

ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .

وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !

اللهم إلا من يكرمه الله إكرامهم : فيقرب له البعيد ? !

فاللهم إنك تعلم أنني أتطلع لهذا الزاد الفريد ! ! !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

وقوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول تعالى ذكره : محمد رسول الله وأتباعه من أصحابه الذين هم معه على دينه ، أشدّاء على الكفار ، غليظة عليهم قلوبهم ، قليلة بهم رحمتهم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يقول : رقيقة قلوب بعضهم لبعض ، لينة أنفسهم لهم ، هينة عليهم لهم . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ألقى الله في قلوبهم الرحمة ، بعضهم لبعض تَرَاهُمْ رُكّعا سُجّدا يقول : تراهم ركعا أحيانا لله في صلاتهم سجدا أحيانا يبتغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ يقول : يلتمسون بركوعهم وسجودهم وشدّتهم على الكفار ورحمة بعضهم بعضا ، فضلاً من الله ، وذلك رحمته إياهم ، بأن يتفضل عليهم ، فيُدخلهم جنته وَرِضْوَانا يقول : وأن يرضى عنهم ربهم .

وقوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم في وجوههم من أثر السجود في صلاتهم . ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي عناه الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة ، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدينا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد الله العتكي ، عن خالد الحنفي ، قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السجُودِ قال : يعرف ذلك يوم القيامة في وجوههم من أثر سجودهم في الدنيا ، وهو كقوله : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ .

حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مروزق ، عن عطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضا .

حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن فضيل ، عن عطية ، بنحوه .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية ، مثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت شبيبا يقول عن مقاتل بن حيان ، قال : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : النور يوم القيامة .

حدثنا ابن سنان القزاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : قال عليّ بن المبارك : سمعت غير واحد عن الحسن ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ منْ أثَرِ السّجُودِ قال : بياضا في وجوههم يوم القيامة .

وقال آخرون : بل ذلك سيما الإسلام وسَمْته وخشوعه ، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك عليهم في الدنيا ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : السّمُت الحَسَن .

قال : ثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا الحسن بن عُمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : أما إنه ليس بالذي تَرَوْن ، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمْته وخشوعه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد سِيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع والتواضع .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، مثله .

قال : ثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الخشوع .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الآية سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : السّحنْة .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو الخشوع ، فقلت : هو أثر السجود ، فقال : إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العَنْز ، وهو كما شاء الله .

وقال آخرون : ذلك أثر يكون في وجوه المصلين ، مثل أثر السّهَر ، الذي يظهر في الوجه مثل الكَلَف والتهيج والصفرة ، وما أشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه ، ووجهوا التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن سِيماهُمْ في وجُوُهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : الصفرة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : زعم الشيخ الذي كان يقصّ في عُسر ، وقرأ سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ فزعم أنه السّهَر يُرى في وجوههم .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن حفص ، عن شَمِر بن عَطية ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال : تهيّج في الوجه من سهر الليل .

وقال آخرون : ذلك آثار ترى في الوجه من ثَرَى الأرض ، أو نَدَى الطّهّور . ذكر من قال ذلك :

حدثنا حَوْثرة بن محمد المِنقري ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة وحدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير جميعا عن ثعلبة بن سهيل ، عن جعفر بن أبي المُغيرة ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : ثَرى الأرض ، ونَدى الطّهُور .

حدثنا ابن سنان القزّاز ، قال : حدثنا هارون بن إسماعيل ، قال : حدثنا عليّ بن المبارك ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، قال : سمعت عكرِمة يقول : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال : هو أثر التراب .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود ، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقت . وإذ كان ذلك كذلك ، فذلك على كلّ الأوقات ، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام ، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته ، وآثار أداء فرائضه وتطوّعه ، وفي الاَخرة ما أخبر أنهم يعرفون به ، وذلك الغرّة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء ، وبياض الوجوه من أثر السجود . وبنحو الذي قلنا في معنى السيما قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ يقول : علامتهم أو أعلمتهم الصلاة .

وقوله : ذلكَ مَثَلَهُمْ فِي التّوْرَاةِ يقول : هذه الصفة التي وصفت لكم من صفة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه صفتهم في التوراة .

وقوله : وَمَثَلُهُمْ في الإنجِيلِ كَزَرْع أخْرَجَ شَطْأَهُ يقول : وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه ، وهو فراخه ، يقال منه : قد أشطأ الزرع : إذا فرّخ فهو يشطىء إشطاء ، وإنما مثلهم بالزرع المشطىء ، لأنهم ابتدأوا في الدخول في الإسلام ، وهم عدد قليلون ، ثم جعلوا يتزايدون ، ويدخل فيه الجماعة بعدهم ، ثم الجماعة بعد الجماعة ، حتى كثر عددهم ، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أصحابه مثلهم ، يعني نعتهم مكتوبا في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ . . . إلى قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ ثم قال : وَمَثَلهُمْ في الإنجيل كَزَرْعَ أخْرَجَ شَطْأَهُ . . . الآية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذلك مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ : أي هذا المثل في التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فهذا مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ قال ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شطأَهُ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : سيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاة يعني السيما في الوجوه مثلهم في التوراة ، وليس بمَثَلهم في الإنجيل ، ثم قال عزّ وجلّ : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ . . . الآية ، هذا مثلهم في الإنجيل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قول الله : مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ . . . الآية ، قال : هذا مثلهم في التوراة ، ومثل آخر في الإنجيل كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ الآية .

وقال آخرون : هذان المَثَلان في التوراة والإنجيل مثلهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ والإنجيل واحد .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : مثلهم في التوراة ، غير مثَلهم في الإنجيل ، وإن الخبر عن مَثلهم في التوراة متناهٍ عند قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وذلك أن القول لو كان كما قال مجاهد من أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد ، لكان التنزيل : ومثلهم في الإنجيل ، وكزرع أخرج شطأه ، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله : سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ حتى يكون ذلك خبرا عن أن ذلك مَثلهم في التوراة والإنجيل ، وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله : كَزَرْعٍ دليل بَيّن على صحة ما قُلنا ، وأن قولهم وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ خبر مبتدأ عن صفتهم التي هي في الإنجيل دون ما في التوراة منها . وبنحو الذي قلنا في قوله أخْرَجَ شَطْأَهُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : بينا عبد الله يقرىء رجلاً عند غروب الشمس ، إذ مرّ بهذه الآية كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : أنتم الزرع ، وقد دنا حصادكم .

قال : ثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن حُميد الطويل ، قال : قرأ أنس بن مالك : كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ قال : تدرون ما شطأه ؟ قال : نباته .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ قال : سنبله حين يتسلع نباته عن حباته .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ قال : هذا مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل ، قيل لهم : إنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، منهم قوم يأمرون بالمعروف ، وينهوّن عن المنكر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهريّ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قالا : أخرج نباته .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أولاده ، ثم كثرت أولاده .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قال : ما يخرج بجنب الحقلة فيتمّ وينمى .

وقوله : فآزرَهُ يقول : فقوّاه : أي قوّى الزرعَ شطأه وأعانه ، وهو من المؤازرة التي بمعنى المعاونة فاسْتَغْلَظَ يقول : فغلظ الزرع فاسْتَوَى على سُوقِهِ والسوق : جمع ساق ، وساق الزرع والشجر : حاملته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فآزَرَهُ يقول : نباته مع التفافه حين يسنبل ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ فهو مثل ضربه لأهل الكتاب إذا خرج قوم ينبتون كما ينبت الزرع فيبلغ فيهم رجل يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ثم يغلظون ، فهم أولئك الذين كانوا معهم . وهو مَثل ضربه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : بعث الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم اجتمع إليه ناس قليل يؤمنون به ، ثم يكون القليل كثيرا ، ويستغلظون ، ويغيظ الله بهم الكفار .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله فآزَرَهُ قال : فشدّه وأعانه .

وقوله : عَلى سُوقِهِ قال : أصوله .

حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والزهري فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : فتلاحق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فآزَرَهُ اجتمع ذلك فالتفّ قال : وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء ، فلم يزل الله يزيد فيهم ، ويؤيدهم بالإسلام ، كما أيّد هذا الزرع بأولاده ، فآزره ، فكان مثلاً للمؤمنين .

حدثني عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوَى عَلى سُوقِهِ يقول : حبّ برّ نُثِرَ متفرّقا ، فتنبت كلّ حبة واحدة ، ثم أنبتت كلّ واحدة منها ، حتى استغلظ فاستوى على سوقه قال : يقول : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قليلاً ، ثم كثروا ، ثم استغلظوا لِيَغِيظَ الله بِهِمُ الكُفّارَ .

وقوله : يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول تعالى ذكره : يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحُسن نباته ، وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول : فكذلك مَثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واجتماع عددهم حتى كثروا ونموا ، وغلظ أمرهم كهذا الزرع الذي وصف جلّ ثناؤه صفته ، ثم قال : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارِ فدلّ ذلك على متروك من الكلام ، وهو أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ يقول الله : مثلهم كمثل زرع أخرج شطأه فآزَره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، حتى بلغ أحسن النبات ، يُعْجِب الزرّاع من كثرته ، وحُسن نباته .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُعْجِبُ الزرّاع قال : يعجب الزرّاع حُسنه لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ بالمؤمنين ، لكثرتهم ، فهذا مثلهم في الإنجيل .

وقوله : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وعَملُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرا عَظِيما يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدّقوا الله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم .

وقوله : مِنْهُمْ يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون فِي الإسلام بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته . والهاء والميم في قوله مِنْهُمْ عائدة على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك جمع فقيل : «منهم » ، ولم يقل «منه » . وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله : وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُم رُكّعا سُجّدا .

وقوله وَمَغْفِرَةً يعني : عفوا عما مضى من ذنوبهم ، وسيىء أعمالهم بحسنها . وقوله : وأجْرا عَظيما يعني : وثوابا جزيلاً ، وذلك الجنة .