قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضاً ، { أن تحبط أعمالكم } لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ، { وأنتم لا تشعرون } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : " لما نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ، جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فسأل محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : أبا عمرو : ما شأن ثابت أيشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : بل هو من أهل الجنة " . وروي أنه " لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وغلب ثابتاً البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني محمد صلى الله عليه وسلم ، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنزل الله :{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية . قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا ، واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن به في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ، فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وقل له : إن علي ديناراً حتى يقضيه عني وفلان وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه له ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته . قال مالك بن أنس : لا أعلم وصيةً أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه . قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار . وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون أصواتهم } يخفضون أصواتهم عند النبي إجلالا له " . { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه . { لهم مغفرة وأجر عظيم* }
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في خطابه ، أي : لا يرفع المخاطب له ، صوته معه ، فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول ، بل يغض الصوت ، ويخاطبه بأدب ولين ، وتعظيم وتكريم ، وإجلال وإعظام ، ولا يكون الرسول كأحدهم ، بل يميزوه في خطابهم ، كما تميز عن غيره ، في وجوب حقه على الأمة ، ووجوب الإيمان به ، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به ، فإن في عدم القيام بذلك ، محذورًا ، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر ، كما أن الأدب معه ، من أسباب [ حصول الثواب و ] قبول الأعمال .
ثم وجه - سبحانه - نداء ثانيا إلى المؤمنين ، أكد فيه وجوب احترامهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } .
قال الآلوسى : هذه الآية شروع فى النهى عن التجاوز فى كيفة القول عند النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد النهى عن التجاوز فى نفس القول والفعل . وإعادة النداء مع قرب العهد به ، للمبالغة فى الإِيقاظ والتنبيه ، والإِشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه .
أى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر . . واظبوا على توقيركم واحترامكم لرسولكم - صلى الله عليه وسلم - ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته عند مخاطبتكم له . ولا تجعلوا أصواتكم مساوية لصوته - صلى الله عليه وسلم - حين الكلام معه ، ولا تنادوه باسمه مجردا بأن تقولوا له يا محمد ، ولكن قولوا له : يا رسول الله ، أو يا نبى الله .
والكاف فى قوله : { كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } فى محل نصب على أن نعت لمصدر محذوف أى : ولا تجهروا له بالقول جهرا مثل جهر بعضكم لبعض .
قال القرطبى : وفى هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بلا همس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفته ، أعنى الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة ، وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها .
وقوله - سبحانه - : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بيان لما يترتب على رفع الصوت عند مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - من خسران .
والجملة تعليل لما قبلها ، وهى فى محل نصب على أنها مفعول لأجله . أى : نهاكم الله - تعالى - عن رفع أصواتكم فوق صوت النبى ، وعن أن تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، كراهة أو خشية أن يبطل ثواب أعمالكم بسبب ذلك ، وأنتم لا تشعرون بهذا البطلان .
قال ابن كثير : وقوله : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أى : إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده - صلى الله علهي وسلم - خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدرى . وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره ، كما كان يركه فى حياته ، لأنه محترم حيا وفى قبره .
ولقد امتثل الصحابة لهذه الإِرشادات امتثالا تاما ، فهذا " أبو بكر يروى عنه أنه لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخى السرار - أى : كالذى يتكلم همسا . وهذا ثبات بن قيس ، كان رفيع الصوت ، فلما نزلت هذه الآية : قال : أنا الذى كنت أرفع صوتى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا من أهل النار ، حبط عملى ، وجلس فى أهل بيته حزبنا . . فلما بلغ النبى - صلى الله عليه وسلم - ما قاله ثابت ، قال لأصحابه : " لا . بل هو من أهل الجنة " " .
قال بعض العلماء : وما تضمنته هذه الآية من لزوم توقير النبى - صلى الله عليه وسلم - جاء مبينا فى آيات أخرى ، منها قوله - تعالى - : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله - تعالى - لم خاطبه فى كتابه باسمه ، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم كقوله - سبحانه - : { ياأيها النبي . ياأيها الرسول . ياأيها المدثر } .
مع أنه - سبحانه - قد نادى غيره من الأنبياء بأسمائهم ، كقوله - تعالى - : { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ } وقوله - عز وجل - : { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } أما النبى - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر اسمه فى القرآن فى خطاب ، وإنما ذكر فى غير ذلك ، كقوله - تعالى - { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل }
والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب ؛ وتوقيرهم له في قلوبهم ، توقيرا ينعكس على نبراتهم وأصواتهم ؛ ويميز شخص رسول الله بينهم ، ويميز مجلسه فيهم ؛ والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب ؛ ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب :
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . .
يا أيها الذين آمنوا . . ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان . . أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . . ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم ، وهم غير شاعرين ولا عالمين ، ليتقوه !
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب ، وهذا التحذير المرهوب ، عمله العميق الشديد :
قال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة . قال : كاد الخيران أن يهلكا . . أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . . رفعا أصواتهما عند النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين قدم عليه ركب بني تميم " في السنة التاسعة من الهجرة " فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس - رضي الله عنه - أخي بني مجاشع " أي ليؤمره عليهم " وأشار الآخر برجل آخر . قال نافع : لا أحفظ اسمه " في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد " فقال : أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . قال ابن الزبير - رضي الله عنه - : فما كان عمر - رضي الله عنه - يسمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذه الآية حتى يستفهمه ! وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار " يعني كالهمس ! " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : لما نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله : وأنتم لا تشعرون وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت . فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنا من أهل النار . حبط عملي . وجلس في أهله حزينا . ففقده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق بعض القوم إليه ، فقالوا له : تفقدك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مالك ? قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأجهر له بالقول . حبط عملي . أنا من أهل النار . فأتوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبروه بما قال . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا . بل هو من أهل الجنة " . قال أنس - رضي الله عنه - : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة .
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب ، وذلك التحذير الرعيب ؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون . ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم ، فخافوه واتقوه !
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوَاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام ، وتغلظون له في الخطاب وَلا تجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ يقول : ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا : يا محمد ، يا محمد ، يا نبيّ الله ، يا نبي الله ، يا رسول الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ، قال لا تنادُوه نداء ، ولكن قولاً لينا يا رسول الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ كانوا يجهرون له بالكلام ، ويرفعون أصواتهم ، فوعظهم الله ، ونهاهم عن ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، كانوا يرفعون ، ويجهرون عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوعظوا ، ونهوا عن ذلك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . الاَية ، هو كقوله : لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا نهاهم الله أن ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا وأمرهم أن يشرّفوه ويعظّموه ، ويدعوه إذا دعوه باسم النبوّة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : حدثنا أبو ثابت بن ثابت قيس بن الشماس ، قال : ثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن شماس ، عن أبيه ، قال : لما نزلت هذه الاَية لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ قال : قعد ثابت في الطريق يبكي ، قال : فمرّ به عاصم بن عديّ من بني العَجلان ، فقال : ما يُبكيك يا ثابت ؟ قال : لهذه الاَية ، أتخوّف أن تكون نزلت فيّ ، وأنا صيّت رفيع الصوت قال : فمضى عاصم بن عديّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وغلبه البكاء ، قال : فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلتُ بيت فرسي ، فشدّى على الضبة بمسمار ، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله ، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره ، فقال : «اذْهَبْ فادْعُهُ لي » فجاء عاصم إلى المكان ، فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضّبة ، قال : فخرجا فأتيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما يُبْكِيكَ يا ثابِتُ » ؟ فقال : أنا صيّت ، وأتخوّف أن تكون هذه الاَية نزلت فيّ لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ القَولِ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما تَرْضَى أنْ تَعِيشَ حَميدا ، وتَقْتَلَ شَهيدا ، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ » ؟ فقال : رضيت ببُشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله ، فأنزل الله إنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أصوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولَئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ للتّقْوَى . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر بن عطية ، قال : جاء ثابت بن قيس بن الشماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال : «يا ثابت ما الذي أرى بك » ؟ فقال : آية قرأتها الليلة ، فأخشى أن يكون قد حَبِط عملي يا أيّها الّذِين آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتٍ النّبِيّ وكان في أُذنه صمم ، فقال : يا نبيّ الله أخشى أن أكون قد رفعت صوتي ، وجهرت لك بالقول ، وأن أكون قد حبط عملي ، وأنا لا أشعر : فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «امْشِ على الأرْضِ نَشِيطا فإنّكَ مِنْ أهْلِ الجَنّةِ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عليه ، قال : حدثنا أيوب ، عن عكرِمة ، قال : لما نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . الاَية ، قال ثابت بن قيس : فأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول ، فأنا من أهل النار ، فقعد في بيته ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل عنه ، فقال رجل : إنه لجاري ، ولئن شئت لأعلمنّ لك علمه ، فقال : «نعم » ، فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفقدك ، وسأل عنك ، فقال : نزلت هذه الاَية يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . الاَية وأنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول ، فأنا من أهل النار ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنّةِ » فلما كان يوم اليمامة انهزم الناس ، فقال : «أفّ لهؤلاء وما يعبدون ، وأفّ لهؤلاء وما يصنعون » ، يا معشر الأنصار خلوا لي بشيء لعلي أصلى بحرّها ساعة قال : ورجل قائم على ثلمة ، فقتل وقُتِل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزّهريّ ، أن ثابت بن قيس بن شماس ، قال : لما نزلت لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ قال : يا نبيّ الله ، لقد خشيت أن أكون قد هلكت ، نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وإني امرؤ جهير الصوت ، ونهى الله المرء أن يحبّ أن يُحمد بما لم يفعل ، فأجدني أحبّ أن أُحمد ونهى الله عن الخُيَلاء وأجدني أحبّ الجمال قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا ثابِتُ أما تَرْضَى أنْ تَعيشَ حَمِيدا ، وَتُقْتَلَ شَهِيدا ، وَتَدْخُلَ الجَنّةَ ؟ » فعاش حميدا ، وقُتل شهيدا يوم مُسَيلمة .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا نافع بن عمر بن جُميْل الجمحي ، قال : ثني أبن أبي مليكة ، عن الزبير ، قال : «قدم وفد أراه قال تميم ، على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، منهم الأقرع بن حابس ، فكلم أبو بكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعمله على قومه ، قال : فقال عمر : لا تفعل يا رسول الله ، قال : فتكلما حتى ارتفعت أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت خلافك . قال : ونزل القرآن : يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ . . . إلى قوله : وأَجْرٌ عَظِيمٌ قال : فما حدّث عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، فَيُسْمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : وما ذكر ابن الزبير جدّه ، يعني أبا بكر .
وقوله : أنْ تَحْبَطَ أعمالُكُمْ يقول : أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها ، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم ، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض .
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك ، فقال بعض نجوّيي الكوفة : معناه : لا تحبط أعمالكم . قال : وفيه الجزم والرفع إذا وضعت «لا » مكان «أن » . قال : وهي في قراءة عبد الله «فَتَحْبَطْ أعمالُكُمْ » وهو دليل على جواز الجزم ، وقال بعض نحويي البصرة : قال : أن تحبط أعمالكم : أي مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال : أسند الحائط أن يميل .
وقوله : وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ يقول : وأنتم لا تعلمونً ولا تدورن .