{ 10 } { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }
يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : هيأناها لكم ، بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها ، ووجوه الانتفاع بها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } مما يخرج من الأشجار والنبات ، ومعادن الأرض ، وأنواع الصنائع والتجارات ، فإنه هو الذي هيأها ، وسخر أسبابها .
{ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } اللّه ، الذي أنعم عليكم بأصناف النعم ، وصرف عنكم النقم .
ثم حكى القرآن جانباً من مظاهر نعم الله على خلقه فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي . . . . } .
مكناكم : من التمكين بمعنى التمليك ، أو معناه : جعلنا لكم فيها مكانا وقراراً وأقدرناكم على التصرف فيها ومعايش : جمع معيشة وهى ما يعاش به من المطاعم والمشارب وما تكون به الحياة .
والمعنى : ولقد جعلنا لكم - يا بنى آدم - مكانا وقرارا في الأرض ، وأقدرناكم على التصرف فيها ، وأنشأنا لكم أنواعا شتى من المطاعم والمشارب التي تتعيشون بها عيشة راضية ، ولكن كثيراً منكم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والكفران .
من هنا تبدأ الرحلة الكبرى . . تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض ، كحقيقة مطلقة ، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً .
( ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش ، قليلاً ما تشكرون ) :
إن خالق الأرض وخالق الناس ، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض . هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله ، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش . .
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، ودورتها حول الشمس ، وميلها على محورها ، وسرعة دورتها . . إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها . وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته ، وبنمو هذه الحياة ورقيها معا . . وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض ، قادراً على تطويعها واستخدامها ؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته . .
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك ، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن " يقهر الطبيعة " كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً ! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة !
إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة . . هي التي تصور الكون عدواً للإنسان ؛ وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته ؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذهالقوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية ، وكل تسخير لها " قهراً للطبيعة " في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني !
إنها تصورات سخيفة ، فوق أنها تصورات خبيثة !
لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان ، عدوة له ، تتربص به ، وتعاكس اتجاهه ، وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون - ما نشأ هذا الإنسان أصلاً ! وإلا فكيف كان ينشأ ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه ؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد ! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه ؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها ؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق . . إن الله هو الذي خلق الكون ، وهو الذي خلق الإنسان . وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان ، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته . . وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه . ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة !
وفي ظل هذا التصور يعيش " الإنسان " في كون مأنوس صديق ؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة . . يعيش مطمئن القلب ، مستروح النفس ، ثابت الخطو ، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة ؛ ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود ؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته ؛ وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع .
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه . . على العكس ، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة . . إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره ، ولا يمنع عنه مدده وعونه . . وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله !
إن مأساة " الوجودية " الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث . . تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني ، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني ! إنه تصور بائس لا بد أن ينشىء حالة من الانزواء والانكماش والعدمية ! أو ينشىء حالة من الاستهتار والتمرد والفردية ! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني ! والبؤس النفسي والعقلي ، والشرود في التيه : تيه التمرد ، أو تيه العدم . . وهما سواء . .
وهي ليست مأساة " الوجودية " وحدها من مذاهب الفكر الأوربي . إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها . المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة ، التي تنشىء في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود ، وما وراءه من قوة مدبرة .
إن " الإنسان " هو ابن هذه الأرض ؛ وهو ابن هذا الكون . لقد أنشأه الله من هذه الأرض ، ومكنه فيها ، وجعل له فيها أرزاقا ومعايش ، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها ؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان ، تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته . . ولكن الناس قليلاً ما يشكرون . . ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون . . وحتى الذين يعلمون لا يملكونأن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر ، وأنى لهم الوفاء ؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون : وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد وطّأنا لكم أيها الناس في الأرض ، وجعلناها لكم قرارا تستقرّون فيها ، ومهادا تمتهدونها ، وفراشا تفترشونها . وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها أيام حياتكم ، من مطاعم ومشارب ، نعمة مني عليكم وإحسانا مني إليكم . قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ يقول : وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري ، واتخاذكم إلها سواي . والمعايش : جمع معيشة . واختلفت القرّاء في قراءتها ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : مَعايِشَ بغير همز ، وقرأه عبد الرحمن الأعرج : «مَعائِشَ » بالهمز .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : مَعايِشَ بغير همز ، لأنها مفاعل من قول القائل : عشت تعيش ، فالميم فيها زائدة والياء في الحكم متحرّكة ، لأن واحدها مَفْعَلَة مَعْيَشَة متحركة الياء ، نُقلت حركة الياء منها إلى العين في واحدها فلما جمعت ردّت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها . وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال مفاعل ، وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال فعائل التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل ، فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال فالعرب تهمزه كقولهم : هذه مدائن وصحائف ونظائر ، لأن مدائن جمع مدينة ، والمدينة : فعيلة من قولهم : مدنت المدينة ، وكذلك صحائف جمع صحيفة ، والصحيفة فعيلة من قولك : صحفت الصحيفة ، فالياء في واحدها زائدة ساكنة ، فإذا جمعت همزت لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها ، وذلك أنها كانت في واحدها ساكنة ، وهي في الجمع متحركة ، ولو جعلت مدينة مَفْعلة من دان يدين ، وجمعت على مفاعل ، كان الفصيح ترك الهمز فيها وتحريك الياء . وربما همزت العرب جمع مفعلة في ذوات الياء والواو وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها ، إذا جاءت على مفاعل تشبيها منهم جمعها بجمع فعيلة ، كما تشبه مَفْعلاً بفَعِيل ، فتقول : مَسِيل الماء ، من سَال يسيل ، ثم تجمعها جمع «فعيل » ، فتقول : هي أَمْسِلَة في الجمع تشبيها منهم لها بجمع بعير وهو فعيل ، إذ تجمعه أبْعِرة ، وكذلك يجمع المصير وهو مَفْعل مُصْران ، تشبيها له بمع بعير وهو فعيل ، إذ تجمعه بُعران ، وعلى هذا همز الأعرج : مَعائِشَ ، وذلك ليس بالفصيح في كلامها . وأولى ما قرىء به كتاب الله من الألسن ، أفصحها وأعرفها دون أنكرها وأشذّها .