إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (10)

{ وَلَقَدْ مكّناكم فِي الأرض } لما أمر الله سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه وبيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبةِ للشكر ترغيباً في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } المعايشُ جمعُ معيشةٍ وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها ، أو ما يُتوصَّل به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ{[254]} الياء وعن ابن عامرٍ أنه همزةٌ تشبيهاً له بصحائف ومدائن ، والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع ، أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسباباً تعيشون بها ، وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالاً من مفعوله المُنكّر ، إذ لو تأخر لكان صفةً له وتقديمُهما على المفعول من أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخر ، فإن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لاسيما عند كونِ المقدم منبئاً عن منفعة للسامع تبقى مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّن ، وأما تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبئ عما ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره أهمّ .

هذا وقيل : إن الجعلَ متعدّ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ الظرفين على أنه مستقر ، قُدّم على الأول ، والظرفُ الآخَرُ إما لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول الأولِ كما مر ، وأنت خبيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً في الأرض ، وقولُه تعالى : { قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ } أي تلك النعمةَ ، تذييلٌ مَسوقٌ لبيان سوءِ حالِ المخاطبين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ فيه عينُ ما مر في تفسير قوله تعالى : { ما تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف ، الآية 3 ] .


[254]:أي اختيار القراءة بالياء لا بالهمزة.