مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (10)

وقوله تعالى : { ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما أمر الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام ، وبقبول دعوتهم ثم خوفهم بعذاب الدنيا ، وهو قوله : { وكم من قرية أهلكناها } ثم خوفهم بعذاب الآخرة من وجهين : أحدهما : السؤال ؛ وهو قوله : { فلنسألن الذين أرسل إليهم } والثاني : بوزن الأعمال ، وهو قوله : { والوزن يومئذ الحق } رغبهم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام في هذه الآية بطريق آخر وهو أنه كثرت نعم الله عليهم ، وكثرة النعم توجب الطاعة ، فقال : { ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش } فقوله : { مكناكم في الأرض } أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا ومكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وجعلنا لكم فيها معايش ، والمراد من المعايش : وجوه المنافع وهي على قسمين ، منها ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثمار وغيرها ، ومنها ما يحصل بالاكتساب وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه ، فيكون الكل إنعاما من الله تعالى ، وكثرة الإنعام لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد ، ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال والإنعام عالم بأنهم لا يقومون بشكره كما ينبغي ، فقال : { قليلا ما تشكرون } وهذا يدل على أنهم قد يشكرون والأمر كذلك ، وذلك لأن الإقرار بوجود الصانع كالأمر الضروري اللازم لجبلة عقل كل عاقل ، ونعم الله على الإنسان كثيرة ، فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه ، إنما التفاوت في أن بعضهم قد يكون كثير الشكر ، وبعضهم يكون قليل الشكر .

المسألة الثانية : روى خارجة عن نافع أنه همز { معائش } قال الزجاج : جميع النحويين البصريين يزعمون أن همز { معائش } خطأ ، وذكروا أنه إنما يجوز جعل الياء همزة إذا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف ، فأما ( معايش ) فمن العيش ، والياء أصلية ، وقراءة نافع لا أعرف لها وجها ، إلا أن لفظة هذه الياء التي هي من نفس الكلمة أسكن في معيشة فصارت هذه الكلمة مشابهة لقولنا صحيفة ، فجعل قوله : { معائش } شبيها لقولنا صحائف فكما أدخلوا الهمزة في قولنا : -صحائف- فكذا في قولنا معائش على سبيل التشبيه ، إلا أن الفرق ما ذكرناه أن الياء في –معيشة- أصلية وفي صحيفة زائدة .