في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (10)

من هنا تبدأ الرحلة الكبرى . . تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض ، كحقيقة مطلقة ، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً .

( ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش ، قليلاً ما تشكرون ) :

إن خالق الأرض وخالق الناس ، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض . هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله ، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش . .

هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، ودورتها حول الشمس ، وميلها على محورها ، وسرعة دورتها . . إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها . وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته ، وبنمو هذه الحياة ورقيها معا . . وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض ، قادراً على تطويعها واستخدامها ؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته . .

ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك ، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن " يقهر الطبيعة " كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً ! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة !

إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة . . هي التي تصور الكون عدواً للإنسان ؛ وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته ؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذهالقوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية ، وكل تسخير لها " قهراً للطبيعة " في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني !

إنها تصورات سخيفة ، فوق أنها تصورات خبيثة !

لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان ، عدوة له ، تتربص به ، وتعاكس اتجاهه ، وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون - ما نشأ هذا الإنسان أصلاً ! وإلا فكيف كان ينشأ ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه ؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد ! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه ؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها ؟

إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق . . إن الله هو الذي خلق الكون ، وهو الذي خلق الإنسان . وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان ، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته . . وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه . ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة !

وفي ظل هذا التصور يعيش " الإنسان " في كون مأنوس صديق ؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة . . يعيش مطمئن القلب ، مستروح النفس ، ثابت الخطو ، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة ؛ ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود ؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته ؛ وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع .

إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه . . على العكس ، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة . . إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره ، ولا يمنع عنه مدده وعونه . . وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله !

إن مأساة " الوجودية " الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث . . تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني ، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني ! إنه تصور بائس لا بد أن ينشىء حالة من الانزواء والانكماش والعدمية ! أو ينشىء حالة من الاستهتار والتمرد والفردية ! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني ! والبؤس النفسي والعقلي ، والشرود في التيه : تيه التمرد ، أو تيه العدم . . وهما سواء . .

وهي ليست مأساة " الوجودية " وحدها من مذاهب الفكر الأوربي . إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها . المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة ، التي تنشىء في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود ، وما وراءه من قوة مدبرة .

إن " الإنسان " هو ابن هذه الأرض ؛ وهو ابن هذا الكون . لقد أنشأه الله من هذه الأرض ، ومكنه فيها ، وجعل له فيها أرزاقا ومعايش ، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها ؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان ، تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته . . ولكن الناس قليلاً ما يشكرون . . ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون . . وحتى الذين يعلمون لا يملكونأن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر ، وأنى لهم الوفاء ؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون : وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى :

( قليلاً ما تشكرون ) .

/خ25