اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (10)

لمَّا أمر الخَلْقَ بمتابَعَةِ الأنْبِيَاءِ ، ثمَّ خوَّفَهُم بعذاب الدُّنْيَا وهو قوله : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } ، وبعذاب الآخِرَةِ وهو السُّؤالُ ووزن الأعمال رغبهم في دعوة الأنْبِيَاء في هذه الآية بطريق آخر ، وهو أنَّ ذكر كثرة نعم اللَّه عليهم ، وكثرة النِّعيم توجبُ الطَّاعة فقال : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض } أي : جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكَّنَّاكم ، والمُرَادُ بالتَّمكين التمليك والقوة والقدرة .

قوله " وجَعَلْنَا لكم " يجوز أن يكون " جَعَلَ " بمعنى " خَلَقَ " فيتعدَّى لواحد فيتعلَّقُ الجاران ب " الجعلé ، أو بمحذوف على أنهما حالان من " معايش " ، لأنهما لو تأخرا لجاز أن يكونا وصفين . ويجوز أن تكون التصبيرية فتتعدى لاثنين أولهما : " " مَعَايِشَ " ، والثَّأني أحد الجارين ، والآخر : إمَّا حال متعلِّقَةٌ بمحذوف ، وإمَّا متعلِّقةٌ بنفس الجعل وهو الظَّاهِرُ .

و " مَعَايِش " جمع مَعيشَةٍ ، وفيها ثلاثةُ مذاهبٍ :

مذهبُ سيبويه{[15783]} والخَلِيل : أنَّ وزنها مَفْعُلَةٍ بِضَمِّ العين ، أو مَفْعِلة بكسرها ، فعلى الأوَّلِ جُعلتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً ، ونُقِلَتْ إلى فَاءِ الكَلِمَةِ . وقياس قول الأخْفَشِ{[15784]} في هذا النَّحوِ أن يغيِّر الحرفَ لا الحَرَكَة ، ف " معيشة " عنده شَاذَّةٌ إذْ كان يَنْبَغِي أَن يقال فيها مَعُوشة .

وأمَّا على قولنا إنَّ أصلها " مَعِيشَةٌ " بكسر العين فلا شُذُوذَ فيها ومذهب الفرَّاءِ{[15785]} : أنَّ وزنها مَفْعلة بفتح العين ، وليس بشيءٍ .

والمعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي : يُحْيا وقال الزَّجَّاجُ : المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر ل " عَاشَ " يعيشُ عَيْشاً ، وعِيْشَةً قال تعالى : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ، وَمَعَاشاً : قال تعالى : { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 11 ] ، ومَعِيشاً قال رُؤبةُ : [ الرجز ]

إلَيْكَ أشْكُوا شِدَّةَ المَعيشِ *** وَجُهْدَ أعْوَامِ نَتَفْنَ رِيشِي{[15786]}

والعامَّةُ على " مَعَايشَ " بصريح الياءِ . وقد خرج خارجةُ{[15787]} فَرَوَى عن نافع " مَعَائِشَ " بالهَمْزِ ، وقال النَّحْويُّون{[15788]} : هذا غَلَطٌ ؛ لأنَّهُ لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المدِّ زائداً نحو : صَحَائِف ومَدَائِن ، وأمَّا " مَعَايِش " فالياءُ أصلٌ ؛ لأنها من " العَيْشِ " .

قال الفَارِسيُّ - عن أبي عثمان - : " أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعِ " قال : " ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ " .

قال شهابُ الدِّينِ{[15789]} : وقد فعلتِ العربُ مثل هذا ، فَهَمَزُوا " مَنَائِرَ ومَصَائِبَ " جمع " منارةٍ ومُصِيبَة " والأصل " مَنَاوِرُ ، ومَصَاوِبُ " وقد غلَّطَ سيبويه{[15790]} من قال مصائِبَ ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال : " واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول : إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ " [ قال ] ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ : مصاوب ومناور ، وهذا كما قالوا في جمع " مقالٍ " و " مقام " : " مقاول " و " مقاوم " في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال : وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك : [ الطويل ]

وإنِّي لَقَوَّامٌ مقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ *** جَريرٌ ولا مَوْلَى جرِيرٍ يَقُومُهَا{[15791]}

ووجه همزها أنَّهُم شبَّهوا الاصليَّ بالزَّائد فتوهموا أن " معيشة " بزنة " صحيفة " فهمزوها كما همزوا " تيك " قالوا : ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جميع " مسيل " " مُسْلان " ، توهَّموه على أنَّه على زِنَةٍ " قضيبٍ وقُضْبَان " وقالوا في جمعه " أمْسِلَة " كأنَّهْمِ تَوَهَّمُوا أنَّهُ بزنة " رَغيفٍ ، وأرْغِفَةٍ " وإنَّما مسيل وزنه " مفعلٌ " ؛ لأنه من سيلان الماءِ ، وأنْشَدُوا على " مَسِيلِ ، وأمْسِلة " قول أبِي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ : [ الوافر ]

بِوَادٍ لا أنِيسَ بِهِ يبابٍ *** وأمْسِلَةٍ مَذَانِبُهَا خَلِيفُ{[15792]}

وقال الزَّجَّاجُ{[15793]} : جميعُ نُحَاةِ البَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أنَّ همزها خَطَأ ، ولا أعلم لها وجهاً إلاَّ التِّشْبِيه ب " صحيفة " و " صحائف " ، ولا ينبغي التَّعْوِيلُ على هذه القراءة .

قال شهابُ الدين{[15794]} : وهذه القراءةُ لم يَنْفَرِدْ بها نافعٌ بل قَرَأهَا جماعة جلَّةٌ معه ؛ فإنَّها منقولة عن ابن عامر الذي قَرَأ على جماعة من الصَّحابةِ ك " عُثْمان " و " أبي الدَّرْدَاءِ " و " معاوية " ، وقد سبق ذلك في " الأنعام " {[15795]} ، فقد قَرَأ بها قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ ، وهو عربي فَصِيحٌ وقَرَأ بها أيضاً زيدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وهو على جانب من الفَصَاحَة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلاَّ القليل ، وَقَرأ بها أيضاً الأعْمَشُ والأعْرَجُ وكفى بهما في الإتْقَانِ والضَّبْطِ . وقد نقل الفرَّاءُ{[15796]} أنَّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء " صحيف " قد جاء ، وإن كان قليلاً .

وقوله : { قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } كقوله : { قَلِيلاً ما تَذكَّرُونَ } .


[15783]:ينظر: الكتاب لسيبويه 2/364-367.
[15784]:ينظر: معاني القرآن للأخفش 2/293.
[15785]:ينظر: معاني القرآن للفراء 1/373.
[15786]:تقدم.
[15787]:ينظر: السبعة 278، والحجة 4/7، وإعراب القراءات 1/176، وإتحاف 2/44.
[15788]:ينظر: الدر المصون 3/237.
[15789]:ينظر: الدر المصون 3/237.
[15790]:ينظر: الكتاب لسيبويه 4/356.
[15791]:البيت للأخطل ينظر: ديوانه 233، الخصائص 3/145، ابن يعيش 10/90، المنصف 1/306، المقتضب 1/260، الدر المصون 3/238.
[15792]:البيت ينظر: أشعار الهذليين 1/185، الدر المصون 3/238.
[15793]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/353.
[15794]:ينظر: الدر المصون 3/238.
[15795]:ينظر: تفسير سورة الأنعام آية 137.
[15796]:ينظر: معاني القرآن للفراء 1/373.