المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

100- والمؤمنون - الذين سبقوا إلى الإسلام - من المهاجرين والأنصار ، الذين ساروا على نهجهم فأحسنوا ولم يقصروا - يرضى اللَّه عنهم ، فيقبل منهم ويجزيهم خيرا ، وهم كذلك يرضون ويستبشرون بما أعد اللَّه لهم من جنات تجرى الأنهار تحت أشجارها ، فينعمون فيها نعيما أبديا ، وذلك هو الفوز العظيم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

قوله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الآية . قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله : { والسابقون } . واختلفوا في السابقين الأولين ، قال سعيد بن المسيب ، وقتاد وابن سيرين وجماعة : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر . وقال الشعبي : هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية . واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة ، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال بعضهم : أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو قول جابر ، قال مجاهد وابن إسحاق ، أسلم وهو ابن عشر سنين . وقال بعضهم : أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي . وقال بعضهم : أول من أسلم زيد بن حارثة ، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير . وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومن العبيد زيد بن حارثة . قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله رسوله ، وكان رجلا محببا سهلا كان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها ، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ، فأسلم على يديه - فيما بلغني - : عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام . ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام ، أما السابقون من الأنصار : فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وكانوا ستة في العقبة الأولى ، وسبعين في الثانية ، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن ، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان . قوله عز وجل : { والسابقون الأولون من المهاجرين } الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم . { والأنصار } أي : ومن الأنصار ، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه ، { والذين اتبعوهم بإحسان } . قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين . وقيل : هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة . وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء . وقال أبو صخر حميد بن زياد : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم ، فقلت : من أين تقول هذا ؟ فقال : يا هذا اقرأ قول الله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } إلى أن قال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ، وقال : { والذين اتبعوهم بإحسان } ، شرط في التابعين شريطة وهى أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة . قال أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط . روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " . ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } ، قرأ ابن كثير : " من تحتها الأنهار " ، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة ، { خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

{ 100 ْ } { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ }

السابقون هم الذين سبقوا هذة الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة والجهاد ، وإقامة دين اللّه .

{ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا ، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون }

و  من { الْأَنْصَارِ } ( الذين تبوأوا الدار والإيمان ، [ من قبلهم ] يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )

{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } بالاعتقادات والأقوال والأعمال ، فهؤلاء ، هم الذين سلموا من الذم ، وحصل لهم نهاية المدح ، وأفضل الكرامات من اللّه .

{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة ، { وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ } الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان ، والحدائق الزاهية الزاهرة ، والرياض الناضرة .

{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } لا يبغون عنها حولا ، ولا يطلبون منها بدلا ، لأنهم مهما تمنوه ، أدركوه ، ومهما أرادوه ، وجدوه .

{ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل لهم فيه ، كل محبوب للنفوس ، ولذة للأرواح ، ونعيم للقلوب ، وشهوة للأبدان ، واندفع عنهم كل محذور .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

وبعد هذا التقسيم للأعراب ، انتقلت السورة للحديث عن المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأطاعوه في السر والعلن ، فقال تعالى : { والسابقون الأولون . . . } .

فهذه الآية الكريمة قد مدحت ثلاث طوائف من المسلمين المعاصرين للعهد النبوى .

الطائفة الأولى { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين } وهم الذين تركوا ديارهم وأموالهم بمكة ، وهاجروا إلى الحبشة ، ثم الى المدينة من أجل إعلاء كلمة الله واستمروا في المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تم الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا .

وقيل المراد بهم : الذين صلوا إلى القبلتين ، وقيل : الذين شهدوا غزوة بدر .

والطائفة الثانية : السابقون الأولون من الأنصار ، وهم الذين بايعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يهاجر اليهم إلى المدينة بيعة العقبة الأولى والثانية .

وكانت بيعة العقبة الأولى في السنة الحادية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعة أفراد .

أما بيعة العقبة الثانية فكانت في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعين رجلا وامرأتين .

ثم يلي هؤلاء أولئك المؤمنون من أهل المدينة الذين دخلوا في الإِسلام على يد مصعب بن عمير ، قبل وصول الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليها .

ثم يلى هؤلاء جميعا أولئك الذين آمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - بعد مقدمه إلى المدينة .

والطائفة الثالثة : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } أى : الذين اتبعوا السابقين في الإسلام من المهاجرين والأنصار ، اتباعا حسنا في أقوالهم وأعمالهم وجهادهم ونصرتهم لدعوة الحق .

قال الآلوسى ما ملخصه : وكثير من الناس ذهب إلى أن المراد بالسابقين الأولين : جميع المهاجرين والأنصار . ومعنى كونهم سابقين : أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين .

روى عن حميد بن زياد قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظى ، ألا تخبرنى عن الصحابة فيما كان بينهم من الفتن ؟ فقال لي : إن الله - تعالى - قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، فقلت له : وفى أي موضع أوجب لهم الجنة ، فقال : سبحانه ! ! ألم تقرأ قوله . تعالى - : { والسابقون الأولون . . . } الآية فقد أوجب . سبحانه لجميع الصحابة الجنة وشرط على تبايعهم أن يقتدروا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءاً .

وقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } بيان لسمو منزلتهم ، وارتفاع مكانتهم .

أى : رضي الله عنهم في إيمانهم وإخلاصهم ، فتقبل أعمالهم ، ورفع درجاتهم وتجاوز عن زلاتهم ، ورضوا عنه ، بما أسبغه عليهم من نعم جليلة ، وبما ناله منه سبحانه من هداية وثواب .

ثم ختم سبحانه الآية الكريمة ببيان ما هيأه لهم في الآخرة من إكرام فقال : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم } .

أى : أنه - سبحانه - بجانب رضاه عنهم ورضاهم عنه في الدنيا ، قد أعد لهم - سبحانه - في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها خلودا أبديا وذلك الرضا والخلود في الجنات من الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا تدانيه سعادة .

قال الإِمام ابن كثير : أخبر الله - تعالى - في هذه الآية " أنه قد رضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . فياويل من أبغضهم ، أو سبهم ، أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول ، وخيرهم وأفضلهم أعنى الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبى قحافة ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ، ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الايمان بالقرآن إذ يسبون من رضى الله عنهم ؟

وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضى الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالى الله ، ويعادون من يعادى الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون ، وعباده المؤمنون .

وبهذا نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ، وذلك لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم وإيثارهم ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (100)

97

وبعد تصنيف الأعراب على وجه الإجمال يستطرد السياق في تصنيف المجتمع كله . . حاضره وباديه . . إلى أربع طبقات إيمانية : السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . والمنافقين الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ومن الأعراب . والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً . والذين أرجئ الحكم في أمرهم حتى يقضي اللّه فيهم بقضائه :

( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم )

( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم . )

وآخرون اعترفوا بذنوبهم . خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . عسى اللّه أن يتوب عليهم إن اللّه غفور رحيم .

خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، واللّه سميع عليم .

ألم يعلموا أن اللّه يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وان اللّه هو التواب الرحيم ?

وقل : اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .

( وآخرون مُرجون لأمر اللّه ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، واللّه عليم حكيم ) .

والظاهر أن هذا التصنيف قد نزلت به هذه الآيات بعد العودة من تبوك ؛ وبعد اعتذار من اعتذر من المنافقين المتخلفين ؛ ومن المؤمنين المتخلفين كذلك . سواء منهم من اعتذر صادقا ومن ربط نفسه بسارية المسجد حتى يحله رسول اللّه - [ ص ] - ومن لم يعتذر بشيء راجياً أن يقبل اللّه توبته بصدقه ، وهم الثلاثة الذين خلفوا فلم يحكم في شأنهم بشيء حتى تاب اللّه عليهم وقبل توبتهم - كما سيجيء - وكان مجموع هؤلاء يمثل صنوف الناس من حول الدعوة في الجزيرة بعد غزوة تبوك . وكان اللّه - سبحانه - يكشف أرض الحركة كلها وما عليها ومن عليها لرسوله - [ ص ] - ومن معه من المؤمنين الخلص ، هذا الكشف النهائي الكامل قرب نهاية المطاف في الجولة الأولى لهذا الدين ، في موطنه الأول ، قبل أن ينطلق إلى الأرض كلها بإعلانه العام بالعبودية للّه وحده والدينونة له وحده ، وتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد في شتى الصور والأشكال .

ولا بد للحركة الإسلامية حين تنطلق أن تتكشف لها أرض المعركة ، وما عليها ومن عليها ، فهذا التكشف ضروري لكل خطوة ؛ حتى يعرف أصحاب الحركة مواضع أقدامهم في كل خطوة في الطريق .

( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، ذلك الفوز العظيم ) . .

وهذه الطبقة من المسلمين - بمجموعاتها الثلاث : ( السابقون الأولون من المهاجرين . والأنصار . والذين اتبعوهم بإحسان )- كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح - كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة ، وفي كل رخاء كذلك : فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة !

والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر ، وكذلك السابقون منالأنصار . أما الذين اتبعوهم بإحسان - الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك - فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك ، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني - وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر ، وهي أشد الفترات طبعاً .

وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار . فقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل : هم الذين صلوا للقبلتين . وقيل : هم أهل بدر . وقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية . وقيل : هم أهل بيعة الرضوان . . . ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية ، أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح . . واللّه أعلم . .

ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية ، يكون حاضراً بين يدي قارئ هذا الجزء ، خيراً من إحالته إلى الجزء السابق ؛ لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا :

" لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة ، فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة : " أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمداً رسول اللّه " وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه ؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه . ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه - [ ص ] - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه ولرسول اللّه ؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية .

" لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة . . وعلى التجمع الجديد ، وعلى القيادة الجديدة ؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة . .

" لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه . وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين ، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد ؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد ، يتبع في تحركه قيادة جديدة ، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض . .

" وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها ، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان . . ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه ، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد ، والدينونة لقيادته الجديدة ، إلا كل من نذر نفسه للّه ؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب ، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان .

" بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي ؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى ؛ وكان هذا النوع قليلاً ؛ فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل ؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب ؛ إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين .

" وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة ، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار ، الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون ، إلا أن بيعتهم لرسول اللّه - [ ص ] - [ بيعة العقبة ] قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين . . قال ابن كثير في التفسير : " وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه - [ ص ] - [ يعني ليلة العقبة ] : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال : " الجنة " . قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل " .

" ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة ؛ ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة ؛ ويوثقون هذا البيع ، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله [ ص ] ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين ؛ بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم ، وأن العرب كلها سترميهم ؛ وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة ، وبين ظهرانيهم في المدينة " . .

. . . " فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة ؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة . . ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها . . فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة . .

" ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء . . لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم . . حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء : عبد اللّه بن أبي بن سلول : هذا أمر قد توجه ! وأظهر الإسلام نفاقا . ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه . . مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني ، ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية . "

وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد ، بقيادة رسول اللّه - [ ص ] - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ؛ ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد .

" وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم ؛ وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ؛ ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة .

" ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف والنفاق والتردد ، والشح بالنفس والمال ، والتهيب من مواجهة المخاطر . . وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية . . والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .

. . . " إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ وما تحدثه من تماسك وصلابه في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً ، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها .

" وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ، ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين . حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة ، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد . .

" نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها ؛ فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها . . تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . وتميز أهل بدر . وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية . ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم ، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة ، وتنص عليها . . . " .

. . . " ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية ، لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح ؛ وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف ، والكثير من ظواهر الضعف والتردد ، والشح بالنفس والمال ، وعدم الوضوح العقيدي ، والنفاق . . . من ذلك المجتمع . بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية .

" إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري ، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف - وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة - قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون ؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ؛ وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية . . . " .

ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك( بإحسان )يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي . وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقي مؤثراً في التاريخ البشري كله ، كما نستشرف حقيقة قول اللّه سبحانه فيهم :

( رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ) . .

ورضى اللّه عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة ، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة ؛ ورضاهم عن اللّه هو الاطمئنان إليه سبحانه ، والثقة بقدره ، وحسن الظن بقضائه ، والشكر على نعمائه ، والصبر على ابتلائه . . ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر ، المتبادل الوافر ، الوارد الصادر ، بين اللّه سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده ؛ ويرفع من شأن هذه الصفوة - من البشر - حتى ليبادلون ربهم الرضى ؛ وهو ربهم الأعلى ، وهم عبيده المخلوقون . . وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أنتعبر عنه ؛ ولكن يُتنسم ويُستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول !

ذلك حالهم الدائم مع ربهم : ( رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ) . وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى :

( وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ) . . ( ذلك الفوز العظيم ) . .

وأي فوز بعد هذا وذلك عظيم ? ? ?