قوله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما } قرأ أهل المدينة والبصرة : يخرج بضم الياء وفتح الراء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الراء ، { اللؤلؤ والمرجان } وإنما يخرج من المالح دون العذب ، وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل ، كما قال عز وجل : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم }( الأنعام-130 ) وكان الرسل من الإنس دون الجن . وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر . قال ابن جريج : إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة كانت لؤلؤة ، واللؤلؤ : ما عظم من الدر ، والمرجان : صغارها . وقال مقاتل ومجاهد على الضد من هذا . وقيل : المرجان الخرز الأحمر . وقال عطاء الخراساني : هو البسد .
ثم يذكر - سبحانه - بعض نعمه المختبئة فى البحرين فيقول : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } .
و { الُّلؤْلُؤُ } - فى أصله حيوان ، وهو أعجب ما فى البحار ، فهو يهبط إلى الأعماق ، وهو داخل صدفة جيرية تقيه من الأخطار . . . ويفرز مادة لزجة تتجمد مكونة " اللؤلؤ " .
والمرجان - أيضا - حيوان يعيش فى البحار . . . ويكون جزرا مرجانية ذات ألوان مختلفة : صفراء برتقالة ، أو حماء قرنفلية ، أو زرقاء زمردية .
ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ الحلى الغالية الثمن ، العالية القيمة ، التى تتحلى بها النساء . .
والآية الكريمة صريحة فى أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين - الملح والعذب - إلا أن كثيرا من المفسرين ساروا على أنه - أى : اللؤلؤ والمرجان - يخرج من أحدهما فحسب ، وه البحر الملح .
قال الآلوسى ما ملخصه : واللؤلؤ صغار الدر ، والمرجان كباره . . . وقيل : العكس .
والمشاهد أن خروج " اللؤلؤ والمرجان " من أحدهما وهو الملح . . . لكن لما التقيا وصارا كالشىء الواحد جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميعه ، ولكن من بعضه ، كما تقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلة من محاله ، بل من دار واحدة من دوره ، وقد يسند إلى الإثنين ما هو لأحدهما ، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم .
والحق أن ما سار عليه الإمام الآلوسى وغيره : من أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحر الملح لا من البحر العذب ، مخالف لما جاء صريحا فى قوله - تعالى - : { وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا . . } فإن هذه الآية صريحة فى أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من كلا البحرين الملح والعذب ، وقد أثبتت البحوث العلمية صحة ذلك ، فقد عثر عليهما فى بعض الأنهار العذبة ، التى فى ضواحى ويلز واسكتلاندا فى بريطانيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبِأَيّ آلاَءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
يقول تعالى ذكره : يخرج من هذين البحرين اللذين مرجهما الله ، وجعل بينهما برزخا اللؤلؤ والمرجان .
واختلف أهل التأويل في صفة اللؤلؤ والمرجان ، فقال بعضهم : اللؤلؤ : ما عظم من الدر ، والمرجان : ما صغُر منه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس اللّؤلُؤُ وَالمَرْجانُ قال : اللؤلؤ : العظام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ أما اللؤلؤ فعظامه ، وأما المرجان فصغاره ، وإن لله فيهما خزانة دلّ عليها عامة بني آدم ، فأخرجوا متاعا ومنفعة وزينة ، وبُلغة إلى أجل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ قال : اللؤلؤ الكبار من اللؤلؤ ، والمرجان : الصغار منه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ أما المرجان : فاللؤلؤ الصغار ، وأما اللؤلؤ : فما عظُم منه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤلُؤُ وَالمَرْجانُ قال : اللؤلؤ : ما عظُم منه ، والمرجان : اللؤلؤ الصغار .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المرجان : هو اللؤلؤ الصغار .
وحدثنا عمرو بن سعيد بن بشار القرشي ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا عبد الله بن ميسرة الحراني ، قال : ثني شيخ بمكة من أهل الشأم ، أنه سمع كعب الأحبار يُسأل عن المرجان ، فقال : هو البسذ .
قال أبو جعفر : البسذ له شُعَب ، وهو أحسن من اللؤلؤ .
وقال آخرون : المرجان من اللؤلؤ : الكبار ، واللؤلؤ منها : الصغار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، أو قيس بن وهب ، عن مرّة ، قالَ : المرجان : اللؤلؤ العظام .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : المرجان ، قال : ما عظم من اللؤلؤ .
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : حدثنا زُهير ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : المرجان : عظيم اللؤلؤ .
وقال آخرون : المرجان : جيد اللؤلؤ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا شريك ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت مرّة عن اللؤلؤ والمرجان قال : المرجان : جيد اللؤلؤ .
وقال آخرون : المرجان : حجر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ قال : المرجان حجر .
والصواب من القول في اللؤلؤ ، أنه هو الذي عرفه الناس مما يخرج من أصداف البحر من الحبّ وأما المرجان ، فإني رأيت أهل المعرفة بكلام العرب لا يتدافعون أنه جمع مرجانة ، وأنه الصغار من اللؤلؤ ، قد ذكرنا ما فيه من الاختلاف بين متقدمي أهل العلم ، والله أعلم بصواب ذلك .
وقد زعم بعض أهل العربية أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من أحد البحرين ، ولكن قيل : يخرج منهما ، كما يقال أكلت : خبزا ولبنا ، وكما قيل :
وَرأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى *** مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمْحا
وليس ذلك كما ذهب إليه ، بل ذلك كما وصفت من قبل من أن ذلك يخرج من أصداف البحر ، عن قطر السماء ، فلذلك قيل : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤلُؤُ يعني بهما : البحران . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : إن السماء إذا أمطرت ، فتحت الأصداف أفواهها ، فمنها اللؤلؤ .
حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا أبو يحيى الحماني ، قال : حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا نزل القطر من السماء تفتّحت الأصداف فكان لؤلؤا .
حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : ذكر سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إن السماء إذا أمطرت تفتحت لها الأصداف ، فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ .
حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري ، قال : أخبرنا محمد بن سوار ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الكوخي بن أخي عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عبد الرحمن الأصبهاني ، عن عكرِمة ، قال : ما نزلت قطرة من السماء في البحر إلاّ كانت بها لؤلؤة أو نبتت بها عنبرة ، فيما يحسب الطبري .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ والمَرْجانُ فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : «يُخْرَجُ » على وجه ما لم يسمّ فاعله . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض المكيين بفتح الياء .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معنييهما .
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : { اللؤلؤ } : كبار الجوهر { والمرجان } : صغاره . وقال ابن عباس أيضاً ومرة الهمداني{[10817]} عكس هذا ، والوصف بالصغر وهو الصواب في { اللؤلؤ } . وقال ابن مسعود وغيره { المرجان } : حجر أحمر ، وهذا هو الصواب في { المرجان } . و { اللؤلؤ } : بناء غريب لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة : اللؤلؤ والجؤجؤ والدؤدؤ واليؤيؤ وهو طائر ، والبؤبؤ وهو الأصل{[10818]} .
واختلف الناس في قوله : { منهما } فقال أبو الحسن الأخفش في كتابه الحجة ، وزعم قوم أنه قد ينفرج { اللؤلؤ والمرجان } من الملح ومن العذب .
قال القاضي أبو محمد : ورد الناس على هذا القول ، لأن الحس يخالفه ولا يخرج ذلك إلا من الملح وقد رد الناس على الشاعر في قوله : [ الطويل ]
فجاء بها ما شيت من لطمية . . . على وجهها ماء الفرات يموج{[10819]}
وقال جمهور من المتأولين : إنما يخرج ذلك من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة ، فلذلك قال : { منهما } وهذا مشهور عند الغواصين . وقال ابن عباس وعكرمة : إنما تتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، لأن الصدف وغيرها تفتح أجوافها للمطر ، فلذلك قال : { منهما } وقال أبو عبيدة ما معناه : إن خروج هذه الأشياء إنما هي من الملح ، لكنه قال : { منهما } تجوزاً كما قال الشاعر [ عبد الله بن الزبعرى ] : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
. . . . . . متقلداً سيفاً ورمحا{[10820]}
. . . . . . . علفتها تبناً وماءً بارداً{[10821]}
فمن حيث هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما ، وهذا كما قال تعالى : { سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن }{[10822]} [ نوح : 15-16 ] ، وإنما هو في إحداهن وهي الدنيا إلى الأرض . قال الرماني : العذب فيهما كاللقاح للملح فهو كما يقال : الولد يخرج من الذكر والأنثى .
وقرأ نافع وأبو عمرو وأهل المدينة : «يُخرَج » بضم الياء وفتح الراء . «اللؤلؤُ » رفعاً . وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «يَخرُج » بضم الياء وفتح الراء على بناء الفعل للفاعل ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر . وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي عنه : «يُخرِج » بضم الياء وكسر الراء على إسناده إلى الله تعالى ، أي بتمكينه وقدرته ، «اللؤلؤَ » نصباً ، ورواها أيضاً عنه بالنون مضمومة وكسر الراء .
حال ثالثة . ثم إن كان المراد بالبحرين : بحرين معروفين من البحار الملحة تكون ( من ) في قوله : { منهما } ابتدائية لأن اللؤلؤ والمرجان يكونان في البحر الملح .
وإن كان المراد بالبحرين : البحر الملح ، والبحر العذب كانت ( من ) في قوله : { منهما } للسببية كما في قوله تعالى : { فمن نفسك } في سورة النساء ( 79 ) ، أي يخرج اللؤلؤ والمرجان بسببهما ، أي بسبب مجموعهما . أما اللؤلؤ فأجْودُهُ ما كان في مصبّ الفرات على خليج فارس ، قال الرماني : لما كان الماء العذب كاللقاح للماء الملح في إخراج اللؤلؤ ، قيل : يخرج منهما كما يقال : يتخلق الولد من الذكر والأنثى ، وقد تقدم بيان تَكون اللؤلؤ في البحار في سورة الحج .
وقال الزجّاج : قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما وهو كقوله تعالى : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 15 ، 16 ] ، والقمر في السماء الدنيا . وقال أبو علي الفارسي : هو من باب حذف المضاف ، أي من أحدهما كقوله تعالى : { على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] أي من إحداهما .
و { المرجان } : حيوان بحري ذو أصابع دقيقة ينشأ ليّناً ثُمَّ يتحجّر ويتلوّن بلون الحمرة ويتصلب كلما طال مكثه في البحر فيستخرج منه كالعروق تتخذ منه حلية ويسمى بالفارسية ( بسَذ ) . وقد تتفاوت البحار في الجيّد من مرجانها . ويوجد ببحر طَبرقَة على البحر المتوسط في شمال البلاد التونسية .
و { المرجان } : لا يخرج من ملتقى البحرين الملح والعذب بل من البحر الملح .
وقيل : المرجان اسم لصغار الدرّ ، واللؤلؤ كباره فلا إشكال في قوله منهما .
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب { يخرج } بضم الياء وفتح الراء على البناء للمجهول . وقرأ الباقون { يخرج بفتح الياء وضم الراء لأنهما إذا أخرجهما الغوّاصون فقد خرجا .
وبين قوله : { مرج } [ الرحمن : 19 ] وقوله : { والمرجان } الجناس المذيّل .