ثم بين ذلك فقال : { ما عندكم ينفد } ، أي : الدنيا وما فيها يفنى ، { وما عند الله باق } . { ولنجزين } ، قرأ أبو جعفر و ابن كثير و عاصم بالنون ، والباقون بالياء . { الذين صبروا } ، على الوفاء في السراء والضراء ، { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن أبي موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى " .
فآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن الذي عندكم ولو كثر جدا لا بد أن { يَنْفَدُ } ويفنى ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } ، ببقائه لا يفنى ولا يزول ، فليس بعاقل من آثر الفاني الخسيس على الباقي النفيس ، وهذا كقوله تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } ، وفي هذا الحث والترغيب على الزهد في الدنيا . خصوصا الزهد المتعين : وهو الزهد فيما يكون ضررا على العبد ، ويوجب له الاشتغال عما أوجب الله عليه وتقديمه على حق الله ، فإن هذا الزهد واجب .
ومن الدواعي للزهد أن يقابل العبد لذات الدنيا وشهواتها بخيرات الآخرة ، فإنه يجد من الفرق والتفاوت ما يدعوه إلى إيثار أعلى الأمرين . [ وليس الزهد الممدوح هو الانقطاع للعبادات القاصرة ، كالصلاة والصيام والذكر ونحوها ، بل لا يكون العبد زاهدا زهدا صحيحا حتى يقوم بما يقدر عليه من الأوامر الشرعية الظاهرة والباطنة ، ومن الدعوة إلى الله وإلى دينه بالقول والفعل ، فالزهد الحقيقي هو الزهد فيما لا ينفع في الدين والدنيا ، والرغبة والسعي في كل ما ينفع ] .
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا } على طاعة الله ، وعن معصيته ، وفطموا نفوسهم عن الشهوات الدنيوية المضرة بدينهم ، { أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا . ولهذا ذكر جزاء العاملين في الدنيا والآخرة فقال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
ثم أضاف - سبحانه - إلى ترغيبهم في العمل بما يرضيه ترغيبا آخر فقال : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } .
أي : ما عندكم من متاع الدنيا وزهرتها يفنى وينقضي ويزول ، وما عند الله - تعالى - في الآخرة من عطاء باق لا يفنى ولا يزول ، فآثروا ما يبقى على ماينفد . يقال : نفد الشيء ، بكسر الفاء ، - ينفد - بفتحها - نفادا ونفودا ، إذا ذهب وفني .
ثم بشر - سبحانه - الصابرين على طاعته بأعظم البشارات فقال : { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أي : ولنجزين الذين صبروا على طاعتنا ، واجتنبوا معصيتنا ، ووفوا بعهودنا ، بجزاء أفضل وأكرم مما كانوا يعملونه في الدنيا من خيرات وطاعات .
وأكد - سبحانه - هذه البشارة بلام القسم ، ونون التوكيد ، لترغيبهم في الثبات على فضيلة الصبر ، وعلى الوفاء بالعهد .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله : { أجرهم } : مفعول ثان لنجزي . وقوله : { بأحسن } : نعت لمحذوف ، أي : بجزاء أحسن من عملهم الذي كانوا يعملونه في الدنيا ، والباء بمعنى على .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنّمَا عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكّديها بأيمانكم ، تطلبون بنقضكم ذلك عرضا من الدنيا قليلاً ، ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به يثبكم الله على الوفاء به ، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك هو خير لكم إن كنتم تعلمون فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما : الثمن القليل الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا ، والآخر : الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به . ثم بين تعالى ذكره فَرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين ، فقال : ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا وإن كَثُر فنافدٌ فانٍ ، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فان ، فلما عنده فاعملوا ، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا . وقوله : { وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، يقول تعالى ذكره : وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السرّاء والضرّاء ، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ومسارعتهم في رضاه ، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها ، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله .
{ ما عندكم } ، من أعراض الدنيا . { ينفذ } ، ينقضي ويفنى . { وما عند الله } ، من خزائن رحمته ، { باقٍ } لا ينفذ ، وهو تعليل للحكم السابق ودليل على أن نعيم أهل الجنة باق . { وليجزينّ الذين صبروا أجرهم } ، على الفاقة وأذى الكفار ، أو على مشاق التكاليف . وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون . { بأحسن ما كانوا يعملون } ، بما يرجع فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء أحسن من أعمالهم .
« ما عند الله » هو ما ادّخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة ، كما سننبّه عليه عند قوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } [ سورة النحل : 97 ] الآية ؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون ، وخير الآخرة أعظم من الكلّ ، فالعندية هنا بمعنى الادِّخار لهم ، كما تقول : لك عندي كذا ، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله : { وعنده مفاتح الغيب } [ سورة الأنعام : 59 ] وقوله { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [ سورة الحجر : 21 ] وقوله : { وما عند الله باق } .
و { إنما } هذه مركّبة من ( إن ) و ( مَا ) الموصولة ، فحقّها أن تكتب مفصولة ( ما ) عن ( إنّ ) لأنها ليست ( ما ) الكافّة ، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتباراً لحالة النّطق ولم يكن وصل أمثالها مطّرداً في جميع المواضع من المصحف .
ومعنى { إن كنتم تعلمون } إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغرّكم العاجل . وفيه حثّ لهم على التأمّل والعلم .
وجملة { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } تذييل وتعليل لمضمون جملة { إنما عند الله هو خير لكم } بأن ما عند الله لهم خير متجدّد لا نفاد له ، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافد لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية .
والنفاد : الانقراض . والبقاء : عدم الفناء .
أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفَد رزقهم ولو كَثُر .
وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله ، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعمّ ، ولذلك كان ضمير { عندكم } عائداً إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل ، وبقرينة المقابلة بما عند لله ، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد ، لأن المنهيّين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء .
ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حَمْلٌ لهم على حرماننِ أنفسهم من ذلك النّفع العاجل وُعِدو الجزاء على صبرهم بقوله تعالى : { وليجزينّ الذين صبروا أجرهم } .
قرأه الجمهور { وليجزين } بياء الغيبة . والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى : { بعهد الله } وما بعده ، فهو النّاهي والواعد فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه .
وقرأه ابن كثير وعاصم وابن ذكوان عن ابن عمر في إحدى روايتين عنه وأبو جعفرَ بنون العظمة فهو التفات .
و { أجرهم } منصوب على المفعولية الثانية ل« يَجزين » بتضمينه معنى الإعطاء المتعدّي إلى مفعولين .
والباء للسببية . و « أحسن » صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن . كما في قوله تعالى : { قال ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه } [ سورة يوسف : 33 ] ، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرّع ألم الفتنة من المشركين . وقد أكد الوعد بلام القسم ونون التوكيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم زهدهم في الأموال، فقال سبحانه: {ما عندكم} من الأموال
{وما عند الله} في الآخرة من الثواب،
{باق}، يعني: دائم لا يزول عن أهله،
{ولنجزين الذين صبروا} على أمر الله عز وجل في وفاء العهد في الآخرة، {أجرهم بأحسن ما كانوا}، يعني: بأحسن الذي كانوا {يعملون} في الدنيا، ويعفو عن سيئاتهم، فلا يجزيهم بها أبدا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 95]
يقول تعالى ذكره: ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكّديها بأيمانكم، تطلبون بنقضكم ذلك عرضا من الدنيا قليلاً، ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به يثبكم الله على الوفاء به، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك هو خير لكم إن كنتم تعلمون فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما: الثمن القليل الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا، والآخر: الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به. ثم بين تعالى ذكره فَرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين، فقال: ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا وإن كَثُر فنافدٌ فانٍ، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فان، فلما عنده فاعملوا، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا. وقوله: {وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}، يقول تعالى ذكره: وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السرّاء والضرّاء، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ومسارعتهم في رضاه، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والذي عند الله من ثوابكم في مآلِكُم نِعَمٌ مجموعةٌ، لا مقطوعةٌ ولا ممنوعة...
ويقال: ما عندكم أو ما منكم أو مالكم: أفعالٌ معلولة وأحوالٌ مدخولة، وما عند الله: فثوابٌ مقيمٌ ونعيمٌ عظيمٌ...
جزاءُ الصبر الفوزُ بالطِّلْبَةِ، والظَّفَرُ بالبُغية. ومآلهم في الطلبات يختلف: فَمَنْ صَبَرَ على مقاساة مشقةٍ في الله. فعِوضُه وثوابُه عظيمٌ من قِبَل الله، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. ومَنْ صبر عن اتباع شهوةٍ لأِجْل الله، وعن ارتكاب هفوةٍ مخافةً لله، فجزاؤه كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقًّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً} [الفرقان:57]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة ومواهب الآخرة، خير لمن اتقى وعلم واهتدى، ثم بين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة، بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، أو ينقضي عنها، و بأن الآخرة باقية دائمة،... و {صبروا}، معناه: عن الشهوات، وعلى مكاره الطاعة، وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المذكورة، وقوله: {بأحسن}، أي: بقدر أحسن ما كانوا يعملون...
ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} وفيه بحثان:
البحث الأول: الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية، والباقي خير من المنقطع، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال: إنه كان خيرا عاليا شريفا أو كان خيرا دنيا خسيسا، فإن قلنا: إنه كان خيرا عاليا شريفا فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصا حال حصوله، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها، وأما إن قلنا: إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع، فثبت بهذا أن قوله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا.
البحث الثاني: أن قوله: {وما عند الله باق} يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع...
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان، وحينئذ يجب عليه أمران:
أحدهما: أن يصبر على ذلك الالتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته. والثاني: أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه، فقال: {ولنجزين الذين صبروا} أي على ما التزموه من شرائع الإسلام {بأحسن ما كانوا يعملون} أي يجزيهم على أحسن أعمالهم، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحات، فلهذا قال: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم بين خيريته وكثرته بقوله تعالى على سبيل التعليل: {ما عندكم}، أي: من أعراض الدنيا، وهو الذي تتعاطونه بطباعكم، {ينفد}، أي: يفنى، فصاحبه منغص العيش، أشد ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه، أو بتجويز انقطاعه إن كان في عداد من يعلم. {وما عند الله}، أي: الذي له الأمر كله من الثواب، {باق}، فليؤتينكم منه إن ثبتم على عهده، ثم لوح بما في ذلك من المشقة عطفاً على هذا المقدر فقال تعالى مؤكداً لأجل تكذيب المكذبين: {ولنجزين}، أي: الله -على قراءة الجماعة بالياء، ونحن- على قراءة ابن كثير وعاصم بالنون التفاتاً إلى التكلم للتعظيم، {الذين صبروا} على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي، {أجرهم}، ولما كان كرماء الملوك يوفون الأجور بحسب الأعمال من الأحسن وما دونه، أخبر بأنه يعمد إلى الأحسن فيرفع الكل إليه ويسوي الأدون به فقال: {بأحسن ما كانوا}، أي: كوناً هو جبلة لهم {يعملون}.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَا عِندَ الله} من خزائن رحمتِه الدنيوية والأخروية {بَاقٍ} لا نفادَ له، أما الأخرويةُ فظاهرةٌ، وأما الدنيويةُ فحيث كانت موصولةً بالأخروية ومستتبِعةً لها، فقد انتظمت في سِمْط الباقيات...
وفي إيثار الاسمِ على صيغة المضارعِ من الدلالة على الدوام ما لا يخفى...
{وَلَنَجْزِيَنَّ}، بنون العظمة على طريقة الالتفاتِ، تكريرُ الوعد المستفادِ من قوله تعالى: {إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، على نهج التوكيدِ القسميِّ مبالغةٌ في الحمل على الثبات في الدين، والالتفاتُ عما يقتضيه ظاهرُ الحال...
{بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، أي: لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكورِ، وإنما أضيف إليه الأحسنُ؛ للإشعار بكمال حسنِه، كما في قوله سبحانه: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة}... على معنى: لنعطينهم بمقابلة الفردِ الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفردِ الأعلى منها من الأجر الجزيلِ... وفيه ما لا يخفى من العُهدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزَعٍ، ونظمِه في سلك الصبر الجميل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا كقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}، وفي هذا الحث والترغيب على الزهد في الدنيا. خصوصا الزهد المتعين: وهو الزهد فيما يكون ضررا على العبد، ويوجب له الاشتغال عما أوجب الله عليه وتقديمه على حق الله، فإن هذا الزهد واجب...
فالزهد الحقيقي هو الزهد فيما لا ينفع في الدين والدنيا، والرغبة والسعي في كل ما ينفع]...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
« ما عند الله» هو ما ادّخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة، كما سننبّه عليه عند قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} [سورة النحل: 97] الآية؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون، وخير الآخرة أعظم من الكلّ، فالعندية هنا بمعنى الادِّخار لهم، كما تقول: لك عندي كذا، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله: {وعنده مفاتح الغيب} [سورة الأنعام: 59] وقوله {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} [سورة الحجر: 21] وقوله: {وما عند الله باق}...
ومعنى {إن كنتم تعلمون} إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغرّكم العاجل. وفيه حثّ لهم على التأمّل والعلم. وجملة {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} تذييل وتعليل لمضمون جملة {إنما عند الله هو خير لكم} بأن ما عند الله لهم خير متجدّد لا نفاد له، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافد لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية. والنفاد: الانقراض. والبقاء: عدم الفناء. أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفَد رزقهم ولو كَثُر. وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعمّ، ولذلك كان ضمير {عندكم} عائداً إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل، وبقرينة المقابلة بما عند لله، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد، لأن المنهيّين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء. ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حَمْلٌ لهم على حرمانِ أنفسهم من ذلك النّفع العاجل وُعِدو الجزاء على صبرهم بقوله تعالى: {وليجزينّ الذين صبروا أجرهم}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويبيّن القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله:"ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق"؛ لأنّ المنافع المادية وإِنْ بدت كبيرة في الظاهر، إِلاّ أنّها لا تعدو أنْ تكون فقاعات على سطح ماء، في حين أنّ الجزاء والثواب الإِلهي النابع من ذات اللّه المطلقة والمقدسة أعلى وأفضل من كل شيء.
ثمّ يضيف قائلا: "ولنجزينَّ الذين صبروا أجرهم "وعلى الأخص في الثبات على العهد والأيمان "بأحسن ما كانوا يعملون".
إِنّ التعبير ب «أحسن» دليل على أنّ أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة، فبعضها حسن، والبعض الآخر أحسن، ولكنّ اللّه تعالى يجزي الجميع بأحسن ما كانوا يعملون، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية، كما لو مثلنا لذلك في مثل من حياتنا، كأنْ يعرض بائع أنواعاً من البضائع المتفاوتة في النوعية، فقسم منها بضائع جيدة، وقسم آخر بضائع رديئة، والبقية بين الاثنين، فيأتي مشتري ليأخذ الجميع بسعر النوعية الجيدة!
ولا تخلو جملة: "ولنجزين الذين صبروا..."، من الإِشارة إلى أنّ الصبر والثبات في السير على طريق الطاعة، وخصوصاً حفظ العهود والأيمان، هي من أفضل أعمال الإِنسان.