افتتحت السورة بقسمين معبرين عن وقتي النشاط والسكون . على أن الله ما ترك رسوله ولا كرهه ، وما يعده له في الآخرة من منازل الرفعة خير مما يكرمه به في الأولى ، ثم أقسم سبحانه على أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيعطي حتى يرضى ، والسوابق شواهد على اللواحق ، فقد كان يتيما فآواه ، وضالا فأحسن هداه ، وفقيرا فأغناه ، ثم دعت الآيات إلى إكرام اليتيم ، وعدم نهر السائل ، وإلى التحدث بنعمة الله .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا الأسود بن قيس ، قال : سمعت جندب بن سفيان قال : " اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فأنزل الله عز وجل : { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } " . وقيل : إن المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب . وقال المفسرون " سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح ؟ فقال : سأخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي " . وقال زيد بن أسلم : كان سبب احتباس جبريل عليه السلام عنه كان جروا في بيته ، فلما نزل عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه ، فقال : إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة . واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه ، فقال ابن جريج : اثنا عشر يوماً . وقال ابن عباس : خمسة عشرة يوماً . وقال مقاتل : أربعون يوماً . قالوا : فقال المشركون : إن محمداً ودعه ربه وقلاه ، فأنزل الله تعالى هذه السورة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال جبريل : إني كنت أشد شوقاً ولكني عبد مأمور ، فأنزل : { وما نتنزل إلا بأمر ربك }( مريم- 64 ) .
قوله عز وجل :{ والضحى } أقسم بالضحى وأراد به النهار كله ، بدليل أنه قابله بالليل إذا سجى ، نظيره : قوله : { أن يأتيهم بأسنا ضحىً }( الأعراف- 98 ) ، يعني نهاراً . وقال قتادة ومقاتل : يعني وقت الضحى ، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس ، واعتدال النهار في الحر والبرد والصيف والشتاء .
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }
أقسم تعالى بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى .
وبالليل إذا سجى وادلهمت ظلمته ، على اعتناء الله برسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ }
1- سورة " الضحى " من السور المكية الخالصة ، بل هي من أوائل السور المكية ، فقد كان نزولها بعد سورة " الفجر " وقبل سورة " الانشراح " ، وتعتبر بالنسبة لترتيب النزول السورة الحادية عشرة من بين السور المكية ، أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الثالثة والتسعون ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية .
2- والقارئ لها ، يرى بوضوح أنها نزلت في فترة تأخر نزول الوحي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم وأن المشركين قد أشاعوا الشائعات الكاذبة حول سبب تأخر الوي ، فنزلت هذه السورة الكريمة ، لتخرس ألسنتهم . ولتبشر النبي صلى الله عليه وسلم برضا ربه –تعالى- عنه ، ولتسوق جانبا من نعم خالقه عليه ، ولترشده –بل وترشد أمته في شخصه- بالمداومة على مكارم الأخلاق ، التي من مظاهرها : العطف على اليتيم ، والإحسان إلى السائل ، وعدم كتمان نعم الله –تعالى- .
قد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه السورة الكريمة روايات منها : ما أخرجه الإِمام البخارى ومسلم وغيرهما عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة - وفى رواية أنها أم جميل امرأة أبى لهب - فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك . فأنزل الله - تعالى - : { والضحى . والليل إِذَا سجى . مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } .
وأخرج ابن أبى شيبة والطبرانى وابن مردويه ، من حديث خولة ، وكانت تخدم النبى صلى الله عليه وسلم " أن جروا دخل تحت سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات ، فمكث النبى صلى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحى ، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة ماذا حدث فى بيتى ، إن جبريل لا يأتينى ، قالت خوله : فقلت يا نبى الله ما أتى علينا يوم خير منّا اليوم . فأخذ برده فلبسه ، وخرج ، فقلت فى نفسى لو هيأت البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير ، فإذا بشئ ثقيل ، لم أزل به حتى بدا لى الجرو ميتا ، فأخذته بيدى ، فألقيته خلف الدار ، فجاء صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته - وكان إذا نزل عليه الوحى أخذته الرعدة - فقال يا خولة دثرينى ، فأنزل الله - تعالى - هذه السورة . . "
وذكر بعضهم : إن جبريل - عليه السلام - أبطأ فى نزوله على النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : قد قلاه ربه وودعه . فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات . .
والضحى : هو وقت ارتفاع الشمس بعد إشراقها ، وهو وقت النشاط والحركة ، والإِقبال على السعى والعمل . . ولذا خص بالقسم به ، وقيل : المراد بالضحى هنا : النهار كله ، بدليل أنه جعل فى مقابلة الليل كله .
والأول أولى : لأن الضحى يطلق على وقت انتشار ضياء الشمس حين ترتفع ، وتلقى بأشعتها على الكون ، ويبرز الناس لأعمالهم المتنوعة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالضّحَىَ * وَاللّيْلِ إِذَا سَجَىَ * مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَىَ * وَلَلاَخِرَةُ خَيْرٌ لّكَ مِنَ الاُولَىَ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَىَ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىَ * وَوَجَدَكَ ضَآلاّ فَهَدَىَ * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىَ } .
أقسم ربنا جلّ ثناؤه بالضحى ، وهو النهار كله ، وأحسب أنه من قولهم : ضَحِىَ فلان للشمس : إذا ظهر منه ومنه قوله : وَأنّكَ لا تَظْمأُ فِيها وَلا تَضْحَى : أي لا يصيبك فيها الشمس .
وقد ذكرت اختلاف أهل العلم في معناه ، في قوله : والشّمْسِ وَضُحاها مع ذكري اختيارنا فيه . وقيل : عُني به وقت الضحى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والضّحَى ساعة من ساعات النهار .
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي جامع الترمذي { سورة الضحى } بدون الواو .
وسميت في كثير من التفاسير وفي صحيح البخاري { سورة والضحى } بإثبات الواو .
ولم يبلغنا عن الصحابة خبر صحيح في تسميتها .
وسبب نزولها ما ثبت في الصحيحين يزيد أحدهما على الآخر عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان البجلي قال دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثة فجاءت امرأة وهي أم جميل بنت حرب زوج أبي لهب كما في رواية عن ابن عباس ذكرها ابن عطية فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث . فأنزل الله { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } .
وروى الترمذي عن ابن عيينة عن الأسود عن جندب البجلي قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت إصبعه فقال : قل أنت إلا إصبع دميت . وفي سبيل الله ما لقيت قال فأبطأ عليه جبريل ، فقال المشركون قد ودع محمد فأنزل الله تعالى { ما ودعك ربك وما قلى } . وقال : حديث حسن صحيح .
ويظهر أن قول أم جميل لم يسمعه جندب لأن جندبا كان من صغار الصحابة وكان يروي عن أبي بن كعب وعن حذيفة كما قال أبن عبد البر . ولعله أسلم بعد الهجرة فلم يكن قوله كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار مقارنا لقول المشركين وقد ودع محمد . ولعل جندبا روى حديثين جمعهما ابن عيينة . وقيل : إن كلمة في غار تصحيف ، وأن أصلها : كنت غازيا . ويتعين حينئذ أن يكون حديثه جمع حديثين .
وعدت هذه السورة حادية عشرة في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة الفجر وقبل سورة الانشراح .
إبطال قول المشركين إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه .
وزاده بشارة بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى . وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه . وذلك يغيض المشركين .
ثم ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها مع نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله .
القسم لتأكيد الخبر ردّاً على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال . فالتأكيد منصبٌ على التعريض المعرض به لإِبطال دعوى المشركين . فالتأكيد تعريض بالمشركين وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه .
ومناسبة القسم ب { الضحى } و{ الليل } أن الضحى وقتُ انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به ، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، وهو الوقت الذي كان يَسمع فيه المشركون قراءتَه من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام .
ولذلك قُيد { الليل } بظَرف { إذا سجى } . فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً } [ المزمل : 2 ، 3 ] .
والضحى تقدم بيانه عند قوله تعالى : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] .
وكتب في المصحف { والضحى } بألف في صورة الياء مع أن أصل ألفه الواو لأنهم راعوا المناسبة مع أكثر الكلمات المختومة بألف في هذه السورة فإن أكثرها مُنقلبَة الألِف عن الياء ، ولأن الألف تجري فيها الإمالة في اللغات التي تُميل الألفَ التي من شأنها أن لا تُمال إذا وقعت مع ألففٍ تمال للمناسبة كما قال ابن مالك في « شرح كافيته » .
ويقال : سجا الليل سَجْواً بفتح فسكون ، وسُجُوا بضمتين وتشديد الواو ، إذا امتد وطال مدة ظلامه مثل سجو المرء بالغطاء ، إذا غطي به جميع جسده وهو واوي ورسم في المصحف بألف في صورة الياء للوجه المتقدم في كتابة { الضحى } .