قوله تعالى : { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً } سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئاً من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة في النفقة ، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهراً ولم يخرج إلى أصحابه ، فقالوا : ما شأنه ؟ وكانوا يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه ، قال : فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أطلقتهن ؟ قال : لا ، قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فنزلت هذه الآية : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم }قال : فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر ، وأنزل الله آية التخيير ، وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وغير القرشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيه ، رضوان الله عليهن فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك . قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : { لا يحل لك النساء من بعد } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، أنبأنا زهير بن حرب ، أنبأنا روح بن عبادة ، أنبأنا زكي بن إسحاق ، أنبأنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال : " دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوساً ببابه ولم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً ، فقال : لأقولن شيئاً أضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين ، ثم نزلت هذه الآية : { يا أيها النبي قل لأزواجك } حتى بلغ : { للمحسنات منكن أجراً عظيماً } قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله وأختار الدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري " أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً ، قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : حين بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت في تسع وعشرين أعدهن ؟ فقال : إن الشهر تسع وعشرون " . واختلف العلماء في هذا الخيار أنه هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفسه الاختيار أم لا ؟ فذهب الحسن ، وقتادة ، وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن ، لقوله تعالى : { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً } بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ، وفي تفويض للطلاق يكون الجواب على الفور . وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقاً . واختلف أهل العلم في حكم التخيير : فقال عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، إلا أن عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعية . وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإذا اختارت نفسها فثلاث ، وهو قول الحسن وبه قال مالك . وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة . وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص ، أنبأنا أبي ، أنبأنا الأعمش ، أنبأنا مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئاً " .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الاَخِرَةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنّ أَجْراً عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمّتّعْكُنّ يقول فإني أمتعكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهنّ بالطلاق بقوله : وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بالمَعْرُوفِ حَقّا على المُحْسِنِينَ وقوله : وأُسَرّحْكُنّ سَراحا جَمِيلاً يقول : وأطلقكنّ على ما أذن الله به ، وأدّب به عباده بقوله : إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ . وَإنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ يقول : وإن كنتنّ تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما فإنّ اللّهَ أعَدّ للْمُحْسِناتِ مِنْكُنّ وهن العاملات منهنّ بأمر الله وأمر رسوله أجْرا عَظِيما .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من عرض الدنيا ، إما زيادة في النفقة ، أو غير ذلك ، فاعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا فيما ذكر ، ثم أمره الله أن يخيرهنّ بين الصبر عليه ، والرضا بما قسم لهنّ ، والعمل بطاعة الله ، وبين أن يمتّعهنّ ويفارقهنّ إن لم يرضين بالذي يقسم لهن . وقيل : كان سبب ذلك غيرة كانت عائشة غارتها . ذكر الرواية بقول من قال : كان ذلك من أجل شيء من النفقة وغيرها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج صلوات ، فقالوا : ما شأنه ؟ فقال عمر : إن شئتم لأعلمنّ لكم شأنه فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يتكلم ويرفع صوته ، حتى أذن له . قال : فجعلت أقول في نفسي : أيّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ، أو كلمة نحوها ؟ فقلت : يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة ، فقال : «ذلكَ حَبَسَنِي عَنكُمْ » قال : فأتى حفصة ، فقال : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ما كانت لك من حاجة فإليّ ثم تتبع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يكلمهنّ ، فقال لعائشة : أيغرّك أنك امرأة حسناء ، وأن زوجك يحبك ؟ لتنتهينّ ، أو لينزلنّ فيك القرآن قال : فقالت أمّ سلمة : يا ابن الخطّاب ، أو مَا بقي لك إلاّ أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه ، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها قال : ونزل القرآن يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَهَا . . . إلى قوله أجْرا عَظِيما قال : فبدأ بعائشة فخيرها ، وقرأ عليها القرآن ، فقالت : هل بدأت بأحد من نسائك قبلي ؟ قال : «لا » ، قالت : فإني أختار الله ورسوله ، والدار الاَخرة ، ولا تخبرهنّ بذلك قال : ثم تتبعهنّ فجعل يخيرهنّ ويقرأ عليهنّ القرآن ، ويخبرهن بما صنعت عائشة ، فتتابعن على ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وأُسَرّحْكُنّ سَرَاحا جَمِيلاً . . . إلى قوله : أجْرا عَظِيما قال : قال الحسن وقتادة : خيرهنّ بين الدنيا والاَخرة والجنة والنار في شيء كنّ أردنه من الدنيا . وقال عكرمة في غيرة : كانت غارتها عائشة ، وكان تحته يومئذٍ تسع نسوة ، خمس من قُرَيش : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة ، وكانت تحته صفية ابنة حُييّ الخَيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجُوَيرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وبدأ بعائشة ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الاَخرة ، رُئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتابعن كلهنّ على ذلك واخترن الله ورسوله والدار الاَخرة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول قتادة ، في قول الله يا أيّها النَبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزينَتَها . . . إلى قوله عَظِيما قالا : أمره الله أن يخيرهنّ بين الدنيا والاَخرة والجنة والنار قال قتادة : وهي غيرة من عائشة في شيء أرادته من الدنيا ، وكان تحته تسع نسوة : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وجُوَيرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حُييّ بن أخطب فبدأ بعائشة ، وكانت أحبهنّ إليه فلما اختارت الله ورسوله والدار الاَخرة ، رُئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعن على ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول قتادة قال : لما اختَرْنَ الله ورسوله شكرهنّ الله على ذلك فقال لا يحلّ لكَ النساءُ مِنْ بَعدُ وَلاَ أنْ تَبَدّلَ بهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجبكَ حُسنُهنّ فقصره الله عليهنّ ، وهنّ التسع اللاتي اخترن الله ورسوله . ذكر من قال ذلك من أجل الغيرة :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ ، وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ . . . الاَية ، قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهجرهنّ شهرا ، نزل التخيير من الله له فيهنّ يا أيّها النّبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فقرأ حتى بلغ وَلا تبَرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى فخيرهنّ بين أن يخترن أن يخلى سبيلهنّ ويسرّحهنّ ، وبين أن يقمن إن أردن الله ورسوله على أنهنّ أمّهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهنّ ، لمن وهب نفسه له حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل فلا جناح عليه ، ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ، ولا يحزنّ ، ويرضين إذا علمن أنه من قضائي عليهنّ ، إيثار بعضهنّ على بعض ، أدنى أن يرضين قال : ومن ابتغيت ممن عزلت من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهنّ بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهنّ ، فاخترن الله ورسوله ، إلاّ امرأة واحدة بدوية ذهبت وكان على ذلك ، وقد شرط له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله .
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، قال : قالت عائشة : لما نزل الخيار ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي أُرِيدُ أنْ أذْكُرَ لَكِ أمْرا فَلا تَقْضِي فِيهِ شَيْئا حتى تَسْتأْمِرِي أبَوَيْكِ » قالت : قلت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : فردّه عليها ، فقالت : ما هو يا رسول الله ؟ قال : فقرأ عليهنّ يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُردْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها . . . إلى آخر الاَية قالت : قلت : بل نختار الله ورسوله قالت : ففرح بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : لما نزلت آية التخيير ، بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة ، فقال : «يا عائِشَةُ إنّي عارضٌ عَلَيْكِ أمْرا فَلا تَفْتاتِي فِيهِ بشَيْءٍ حتى تَعْرِضِيهِ على أبَوَيْكِ ، أبي بَكْر وأُمّ رُومانَ » فقالت : يا رسول الله وما هو ؟ قال : «قال الله يا أيّها النّبِي قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزينَتَها إلى عَظِيما ، فقلت : إني أريد الله ورسوله ، والدار الاَخرة ، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأمّ رومان ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقرأ الحُجَرَ فقال : «إن عائشة قالت كذا » ، فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى نسائه أُمر أن يخيرهنّ ، فدخل عليّ فقال : «سأذكر لَكِ أمْرا وَلا تَعْجَلِي حتى تَسْتَشِيرِي أباكِ » ، فقلت : وما هو يا نبيّ الله ؟ قال : «إنّي أُمِرْتُ أنْ أُخَيّرَكُنّ » ، وتلا عليها آية التخيير إلى آخر الاَيتين قالت : قلت : وما الذي تقول ؟ لا تعجلي حتى تستشيري أباك ، فإني أختار الله ورسوله فسُرّ بذلك ، وعرض على نسائه ، فتتابعن كلهنّ ، فاخترن الله ورسوله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني موسى بن عليّ ، ويونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه ، بدأني ، فقال : «إنّي ذَاكِرٌ لَكِ أمْرا ، فَلا علَيْكِ أنْ لا تَعْجَلِي حتى تَسْتأْمِرِي أبَوَيْكِ » قالت : قد علم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه قالت : ثم تلا هذه الاَية : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أمَتّعْكُنّ وأُسَرّحْكُنّ سَرَاحا جَمِيلاً قالت : فقلت : ففي أيّ هذا استأمر أبويّ ؟ فإني أريد الله ورسوله ، والدار الاَخرة قالت عائشة : ثم فعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت ، فلم يكن ذلك حين قاله لهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاخترنه طلاقا من أجل أنهنّ اخترنه .
ومعنى { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } : إن كنتن تُؤثرن ما في الحياة من الترف على الاشتغال بالطاعات والزهد ، فالكلام على حذف مضاف يقدر صالحاً للعموم إذ لا دليل على إرادة شأن خاص من شؤون الدنيا . وهذه نكتة تعدية فعل { تُرِدْنَ } إلى اسم ذات { الحياة } دون حال من شؤونها .
وعطفُ { زينتَها } عطف خاص على عام ، وفي عطفه زيادة تنبيه على أن المضاف المحذوف عام ، وأيضاً ففعل { تردْنَ } يؤذن باختيار شيء على غيره فالمعنى : إن كنتن ترِدْنَ الانغماس في شؤون الدنيا ، وقد دلت على هذا مقابلته بقوله : { وإن كنتُنّ ترِدْنَ الله ورسوله } كما سيأتي .
و { تعالين } : اسم فعل أمْر بمعنى : أقبِلْنَ ، وهو هنا مستعمل تمثيلاً لحال تَهَيُّؤ الأزواج لأخذ التمتيع وسماع التسريح بحال من يُحضر إلى مكان المتكلم . وقد مضى القول على ( تعال ) عند قوله تعالى : { فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم } في سورة آل عمران ( 61 ) والتمتيع : أن يُعطي الزوج امرأته حين يطلقها عطيةً جبْراً لخاطرها لما يعرض لها من الانكسار . وتقدم الكلام عليها مفصلاً عند قوله تعالى : { ومَتِّعُوهُنّ على المُوسِع قَدْرهُ وعلى المُقْتِرِ قدْرُه متاعاً بالمَعْروف } في سورة البقرة ( 236 ) . وجزم { أمتعْكُنَّ } في جواب { تعالَيْن } وهو اسم فعل أمر وليس أمْراً صريحاً فجَزْمُ جوابه غير واجب فجيء به مجزوماً ليكون فيه معنى الجزاء فيفيد حصول التمتيع بمجرد إرادة إحداهن الحياة الدنيا .
والسراح : الطلاق ، وهو من أسمائه وصيغه ، قال تعالى : { فأمسكوهن بمعروف أو سَرِّحُوهُنَّ بمعروف } [ البقرة : 231 ] .
والجميل : الحَسَن حُسناً بمعنى القبول عند النفس ، وهو الطلاق دون غضب ولا كراهية لأنه طلاق مراعىً فيه اجتناب تكليف الزوجة ما يشقّ عليها . وليس المذكور في الآية من قبيل التخيير والتمليك اللذين هما من تفويض الطلاق إلى الزوجة ، وإنما هذا تخيير المرأة بين شيئين يكون اختيارها أحدهما داعياً زوجها لأن يطلقها إن أراد ذلك .
ومعنى { وإن كنتن تردن الله ورسوله } إن كنتن تُؤْثِرْنَ الله على الحياة الدنيا ، أي : تؤثرن رضى الله لما يريده لرسوله ، فالكلام على حذف مضاف . وإرضاء الله : فعل ما يحبه الله ويقرب إليه ، فتعدية فعل { تردن } إلى اسم ذات الله تعالى على تقدير تقتضيه صحة تعلق الإرادة باسم ذات لأن الذات لا تراد حقيقة فوجب تقدير مضاف ولزم أن يقدر عاماً كما تقدم .
وإرادة رضى الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك على تقدير ، أي : كل ما يرضي الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأول ذلك أن يَبْقَيْنَ في عشرته طيّبات الأنفس .
وإرادة الدار الآخرة : إرادة فَوْزها ، فالكلام على حذف مضاف يقتضيه المقام أيضاً ، فأسلوب الكلام جرى على إناطة الحكم بالأعيان وهو أسلوب يقتضي تقديراً في الكلام من قبيل دلالة الاقتضاء . وفي حذف المضافات وتعليق الإرادة بأسماء الأعيان الثلاثة مقصدُ أن تكون الإرادة متعلقة بشؤون المضاف إليه التي تتنزل منزلة ذاتِه مع قضاء حق الإيجاز بعد قضاء حق الإعجاز . فالمعنى : إن كنتُنّ تؤثرْن ما يُرضي الله ويحبه رسوله وخير الدار الآخرة فتخْتَرْن ذلك على ما يشغل عن ذلك كما دلت عليه مقابلة إرادة الله ورسوله والدار الآخرة بإرادة الحياة الدنيا وزينتها ، فإن المقابلة تقتضي إرادتين يجمع بين إحداهما وبين الأخرى ، فإن التعلق بالدنيا يستدعي الاشتغال بأشياء كثيرة من شؤون الدنيا لا محيصَ من أن تُلهيَ صاحبها عن الاشتغال بأشياء عظيمة من شؤون ما يرضي الله وما يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام وعن التملي من أعمال كثيرة مما يكسب الفوز في الآخرة فإن الله يحب أن ترتقي النفس الإنسانية إلى مراتب الملكية والرسول صلى الله عليه وسلم يبتغي أن يكون أقرب الناس إليه وأعلقهم به سائراً على طريقته لأن طريقته هي التي اختارها الله له . وبمقدار الاستكثار من ذلك يكثر الفوز بنعيم الآخرة ، فالناس متسابقون في هذا المضمار وأوْلاهم بقصب السبق فيه أشدهم تعلُّقاً بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك كانت همم أفاضل السلف ، وأولى الناس بذلك أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وقد ذكّرهن الله تذكيراً بديعاً بقوله : { واذكُرْنَ ما يُتْلَى في بيوتكنّ من ءايات الله والحكمة } [ الأحزاب : 34 ] كما سيأتي .
ولما كانت إرادتهن الله ورسوله والدارَ الآخرة مقتضية عملَهُنّ الصالحات وكان ذلك العمل متفاوتاً ، وجعل الجزاء على ذلك بالإحسان فقال : { فإن الله أعدّ للمحسنات منكُنّ أجراً عظيماً } ليعلمْنَ أن هذا الأجر حاصل لهن على قدر إحسانهن ؛ فهذا وجه ذكر وصف المحسِنات وليس هو للاحتراز . وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة على وصفه بالعظيم .
وتوكيد جملة الجزاء بحرف { إنّ } الذي ليس هو لإزالة التردد إظهار للاهتمام بهذا الأجر . وقد جاء في كتب السنة : أنه لما نزلت هذه الآية ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال لها : « إني ذاكر لكِ أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويْكِ ، ثم تلا هذه الآية ، فقالت عائشة : أفي هذا أستأمر أبوَيّ ؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدارَ الآخرة ، وقال لسائر أزواجه مثل ذلك ، فقلْنَ مثل ما قالت عائشة » . ولا طائل تحت الاشتغال بأن هذا التخيير هل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أو مندوباً ، فإنه أمر قد انقضى ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يخالف أمر الله تعالى بالوجوب أو الندب .