150- ولما رجع موسى من مناجاة ربه إلى قومه ، غضبان عليهم لعبادتهم العجل ، حزينا لأن اللَّه فتنهم - وكان اللَّه قد اخبره بذلك قبل رجوعه - فقال لهم : ما أقبح ما فعلتم بعد غيبتي ، أسَبَقْتم بعبادة العجل ما أمركم به ربكم من انتظاري وحفظ عهدي حتى آتيكم بالتوراة ؟ ! ووضع الألواح ، واتجه إلى أخيه لشدة حزنه حين رأي ما رأي من قومه ، وأخذ يشد أخاه من رأسه ويجره نحوه من شدة الغضب ، ظنا منه أنه قصر في كفَّهم عما فعلوا ، فقال هارون لموسى . يا ابن أمي إن القوم حين فعلوا ما فعلوا قد استضعفوني وقهروني ، وقاربوا قتلى لما نهيتهم عن عبادة العجل ، فلا تَسُر الأعداء بإيذائك لي ، ولا تعتقدني واحدا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم .
قوله تعالى : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً } قال أبو الدرداء الأسف : الشديد الغضب . وقال ابن عباس والسدي : أسفا أي حزيناً ، والأسف أشد من الحزن . قوله تعالى : { قال بئسما خلفتموني من بعدي } أي : بئس ما عملتم بعد ذهابي ، يقال : خلفه بخير أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه عنهم خيراً أو شراً . ذ
قوله تعالى : { أعجلتم } أسبقتم .
قوله تعالى : { أمر ربكم } ، قال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليلة . وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم .
قوله تعالى : { وألقى الألواح } ، التي فيها التوراة وكان حاملاً لها ، وألقاها على الأرض من شدة الغضب . قالت الرواة : كانت التوراة سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت ، فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع ، فرفع ما كان من أخبار الغيب ، وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام .
قوله تعالى : { وأخذ برأس أخيه } ، بذوائبه ولحيته .
قوله تعالى : { يجره إليه } ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين ، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى ، لأنه كان لين الغضب .
قوله تعالى : { قال } هارون عند ذلك .
قوله تعالى : { ابن أم } قرأ أهل الكوفة والشام هاهنا وفي طه بكسر الميم ، يريد يا ابن أمي ، فحذف ياء الإضافة وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله : ( يا عباد ) وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص : بفتح الميم على معنى يا ابن أماه ، وقيل : جعله اسماً واحداً وبناه على الفتح ، كقولهم : حضرموت ، وخمسة عشر ، ونحوهما . وإنما قال ( ابن أم ) وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه ، وقيل : كان أخاه لأمه دون أبيه .
قوله تعالى : { إن القوم استضعفوني } يعني عبدة العجل .
قوله تعالى : { وكادوا يقتلونني } ، هموا وقاربوا أن يقتلوني .
قوله تعالى : { فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني } في مؤاخذتك علي ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا رَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل ، رجع غضبان أسفا ، لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومُه ، وأن السامريّ قد أضلهم ، فكان رجوعه غضبان أسفا لذلك . والأسف : شدّة الغضب والتغيظ به على من أغضبه . كما :
حدثني عمران بن بكار الكُلاعي ، قال : حدثنا عبد السلام بن محمد الحضرمي ، قال : ثني شريح بن يزيد ، قال : سمعت نصر بن علقمة ، يقول : قال أبو الدرداء : قول الله : غَضْبانَ أسِفا ، قال : الأسف : منزلة وراء الغضب أشدّ من ذلك ، وتفسير ذلك في كتاب الله : ذهب إلى قومه غضبان ، وذهب أسفا .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أَسِفا قال : حزينا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا يقول : أسفا حزينا . وقال في الزخرف فلمّا آسفُونَا يقول : أغضبونا . والأسف على وجهين : الغضب والحزن .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا سليمان بن سليمان ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا قال : غضبان حزينا .
وقوله قال : بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي يقول : بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم وأوليتموني فيمن خلفت من ورائي من قومي فيكم وديني الذي أمركم به ربكم . يقال منه : خلفه بخير وخلفه بشرّ إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم خيرا أو شرّا . وقوله : أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبّكُمْ يقول : أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم ، وذهبتم عنه ؟ يقال منه : عجل فلان هذا الأمر : إذا سبقه ، وعجل فلانٌ فلانا إذا سبقه ، ولا تعجَلني يا فلان : لا تذهب عني وتدعني ، وأعجلته : استحثثته .
القول في تأويل قوله تعالى : وألْقَى الألْوَاحَ وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمّ إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي .
يقول تعالى ذكره : وألقى موسى الألواح . ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إياه ، فقال بعضهم : ألقاها غضبا على قومه الذي عبدوا العجل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب قال : ثني سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وألقى الألواح من الغضب .
وحدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا ابن عيينة ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما رجع موسى إلى قومه ، وكان قريبا منهم ، سمع أصواتهم فقال : إني لأسمع أصوات قوم لاهين . فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها ، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أخذ موسى الألواح ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ، فقال : يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْدا حَسَنا . إلى قوله : فكذَلكَ ألْقَى السّامِرِيّ ف ألْقَى مُوسَى الألْوَاحَ وأخَذَ برأَسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ قال يا ابْنَ أُمّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرأسِي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، ألقى الألواح من يده ، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته يقول : ما مَنَعَكَ إذْ رأيْتَهُمْ ضَلّوا ألاّ تَتّبِعَنِ أفَعَصَيْتَ أمْرِي ؟ .
وقال آخرون : إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه ، فاشتدّ ذلك عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيدُ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أخَذَ الألْوَاحَ قال : رَبّ إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة هم الاَخرون السابقون : أي آخرون في الخلق ، سابقون في دخول الجنة ، ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها ، وكان مَن قبلَهم يقرءون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه قال قتادة : وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم قال : ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأوّل وبالكتاب الاَخِر ، ويقاتلون فصول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ثم يؤجرون عليها ، وكان مَن قبلهم من الأمم إذا تصدّق بصدقة فقبلت منه ، بعث الله عليهم نارا فأكلتها ، وإن ردّت عليه تركت تأكلها الطير والسباع ، قال : وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم ، قال : ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ، ربّ اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : ربّ إني أجد في الألواح أمة هم المشفّعون والمشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال : اللهمّ اجعلني من أمة أحمد قال : فأُعطي نبيّ الله موسى عليه السلام ثنتين لم يعطهما نبيّ ، قال الله : يا مُوسَى إنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ برِسالاتي وبِكَلامي قال : فرضي نبي الله . ثم أُعطي الثانية : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمّةٌ يَهْدُونَ بالحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال : فرضي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كلّ الرضا .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : لما أخذ موسى الألواح ، قال : يا ربّ إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد . قال : يا ربّ إني أجد في الألواح أمة هم الاَخرون السابقون يوم القيامة ، فاجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد ، ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ ، إلا أنه قال في حديثه : فألقى موسى عليه السلام الألواح وقال : اللهمّ اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجلَ لأن الله جلّ ثناؤه بذلك أخبر في كتابه ، فقال : وَلمّا رَجَعَ مُوسَى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفا بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبّكُمْ وألْقَى الألْوَاحَ وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ وذلك أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في الألواح التوراة ، أدناه منه حتى سمع صريف القلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي عمارة ، عن عليّ عليه السلام قال : كتب الله الألواح لموسى عليه السلام وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح .
قال : ثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : أدناه حتى سمع صريف الأقلام .
وقيل : إن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت ، فرفع منها ستة أسباعها ، وكان فيما رفع تفصيل كلّ شيء الذي قال الله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي ، وهو الذي قال الله : أخذَ الألْواحَ وفي نُسخِتها هُدًى وَرَحْمَةٌ للّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبونَ . وكانت التوراة فيما ذكر سبعين وِقر بعير يقرأ منها الجزء في سنة كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن خالد المكفوف ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ منها الجزء في سنة ، لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى بن عمران ، وعيسى ، وعُزير ، ويوشع بن نون صلوات الله عليهم .
واختلفوا في الألواح ، فقال بعضهم : كانت من زمرّد أخضر . وقال بعضهم : كانت من ياقوت . وقال بعضهم : كانت من برَد . ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك :
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ألقى موسى الألواح فتكسرت ، فرفعت إلا سدسها . قال : ابن جريج : وأخبرني أن الألواح من زبرجد وزمرّد من الجنة .
وحدثني موسى بن سهل الرملي وعليّ بن داود وعبد الله بن أحمد بن شبويه وأحمد بن الحسن الترمذي ، قالوا : أخبرنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : كانت ألواح موسى عليه السلام من بَرَد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي الجنيد ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : سألت سعيد بن جبير عن الألواح من أيّ شيء كانت ؟ قال : كانت من ياقوتة كتابة الذهب كتبها الرحمن بيده ، فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن محمد بن أبي الوضاح ، عن خصِيف ، عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال : كانت الألواح زمرّدا ، فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة ، وذهب التفصيل .
قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن محمد بن مسلم ، عن خَصيف ، عن مجاهد ، قال : كانت الألواح من زمرّد أخضر .
وزعم بعضهم أن الألواح كانت لوحين ، فإن كان الذي قال كما قال ، فإنه قيل : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ وهما لوحان ، كما قيل : فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ وهما أخوان .
وأما قوله : وأخَذَ بِرأسِ أخِيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ فإن ذلك من فعل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان لموجدته على أخيه هارون في تركه اتباعه وإقامته مع بني إسرائيل في الموضع الذي تركهم فيه ، كما قال جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل موسى عليه السلام له : ما مَنَعَكَ إذْ رأيْتَهُمْ ضَلّوا ألاّ تَتّبِعَنِي أفَعَصَيْتَ أمْرِي ؟ حين أخبره هارون بعذره ، فقبل عذره ، وذلك قيله لموسى : لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرأسِي إنّي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فَرّقْتَ بينَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلمْ تَرْقُبْ قَوْلي وقال : يا ابْنَ أُمّ إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونِني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء . . . الاَية .
واختلفت القرّاء في قراء ة قوله «يا ابْنَ أُمّ » فقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة وبعض أهل البصرة : «يا ابْنَ أُمّ » بفتح الميم من الأمّ . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة : «يا ابْنَ أُمّ » بكسر الميم من الأم .
واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره ، مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان مستعملتان في العرب . فقال بعض نحويي البصرة : قيل ذلك بالفتح على أنهما اسمان جعلا اسما واحدا ، كما قيل : يا ابن عمّ ، وقال : هذا شاذّ لا يقاس عليه ، وقال : من قرأ ذلك : «يا ابن أمّ » ، فهو على لغة الذين يقولون : هذا غلام قد جاء ، جعله اسما واحدا آخره مكسور ، مثل قوله خازِ بازِ . وقال بعض نحويي الكوفة : قيل : يا ابن أمّ ويا ابن عمّ ، فنصب كما ينصب المعرب في بعض الحالات ، فيقال : يا حسرتا ، يا ويلتا ، قال : فكأنهم قالوا : يا أماه ويا عماه ولم يقولوا ذلك في أخ ، ولو قيل ذلك لكان صوابا . قال : والذين خفضوا ذلك فإنه كثر في كلامهم حتى حذفوا الياء . قال : ولا تكاد العرب تحذف الياء إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادِي إلى نفسه ، إلا قولهم : يا ابن أمّ ، ويا ابن عمّ وذلك أنهما يكثر استعمالهما في كلامهم ، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الياء ، فقالوا : يا ابن أبي ، ويا ابن أختي وأخي ، ويا ابن خالتي ، ويا ابن خالي .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إذا فُتحت الميم من «ابن أمّ » ، فمراد به الندبة : يا ابن أماه ، وكذلك من ابن عمّ فإذا كُسرت ، فمراد به الإضافة ، ثم حذفت الياء التي هي كناية اسم المخِبر عن نفسه . وكأن بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا كسر ، ككسر الزاي من خازِ بازِ ، لأن خازِ بازِ لا يعرف الثاني إلا بالأوّل ولا الأوّل إلا بالثاني ، فصار كالأصوات . وحُكي عن يونس النحوي تأنيث أمّ وتأنيث عمّ ، وقال : لا يجعل اسما واحدا إلا مع ابن المذكر . قالوا : وأما اللغة الجيدة والقياس الصحيح فلغة من قال : «يا ابن أمي » بإثبات الياء ، كما قال أبو زَبيد :
يا بْنَ أُمّي ويا شُقَيّقَ نَفْسِي ***أنْتَ خَلّفْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
يا بْنَ أُمّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إذْ تَدْ ***عُو تَمِيما وأنْتَ غيرُ مُجَابِ
وإنما أثبت هؤلاء الياء في الأم لأنها غير مناداة ، وإنما المنادي هو الابن دونها ، وإنما تسقط العرب الياء من المنادى إذا أضافته إلى نفسها ، لا إذا أضافته إلى غير نفسها ، كما قد بينا . وقيل : إن هارون إنما قال لموسى عليه السلام : «يا ابن أمّ » ، ولم يقل : «يا ابن أبي » ، وهما لأب واحد وأم واحدة ، استعطافا له على نفسه برحِم الأم . وقوله : إنّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي يعني بالقوم الذين عكفوا على عبادة العجل ، وقالوا هذا إلهنا وإله موسى ، وخالفوا هارون . وكان استضعافهم إياه ، تركهم طاعته واتباع أمره . وكَادُوا يَقْتُلُونَني يقول : قاربوا ولم يفعلوا .
واختلفت القراء في قراءة قوله : فَلا تُشْمِتْ فقرأ قرّاء الأمصار ذلك : فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ بضمّ التاء من تُشمت وكسر الميم منها ، من قولهم : أشمت فلان فلانا بفلان ، إذا سرّه فيه بما يكرهه المُشمَت به . ورُوي عن مجاهد أنه قرأ ذلك : «فلا تَشْمُتْ بِيَ الأعْدَاءُ » .
حدثني بذلك عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال حميد بن قيس قرأ مجاهد : «فَلا تَشْمُتْ بِيَ الأعْدَاءَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن حميد ، قال : قرأ مجاهد : «فَلا تَشْمُتْ بِيَ الأعْدَاءُ » .
حُدثت عن يحيى بن زياد الفرّاء ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن رجل ، عن مجاهد أنه قال : لا تَشْمُتْ .
وقال الفرّاء : قال الكسائي : ما أدري ، فلعلهم أرادوا : فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ فإن تكن صحيحة فلها نظائر . العرب تقول : فَرِغْتُ وَفَرَغْتُ ، فمن قال : فَرِغْتُ قال : أنا أفْرَغُ ، ومن قال : فَرَغْتَ قال : أنا أفْرُغُ ، وكذلك رَكِبْت وَرَكَنْتُ وشَمِلَهم أمر وشَمَلَهم ، في كثير من الكلام . قال : «والأعداء » رَفْع لأن الفعل لهم لمن قال تَشْمَتُ أو تَشْمُت .
والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها قراءة من قرأ : فَلا تُشْمِتْ بضم التاء الأولى وكسر الميم من أشمتّ به عدوّه أشْمِته به ، ونصب الأعداء لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليها وشذوذ ما خالفها من القراءة ، وكفى بذلك شاهدا على ما خالفها . هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلم بكلام العرب : شمّتَ فلان فلانا بفلان ، وشمَت فلان بفلان يشمُت به ، وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوّه شَمِتَ به بكسر الميم يَشْمَتُ به بفتحها في الاستقبال .
وأما قوله : وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ فإنه قول هارون لأخيه موسى ، يقول : لا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك محلّ من عصاك فخالف أمرك وعبد العجل بعدك فظلم نفسه وعبد غير من له العبادة ، ولم أشايعهم على شيء من ذلك . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ قال : أصحاب العجل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . بمثله .
جُعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبلُ على الأسلوب المبين في قوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا } [ الأعراف : 143 ] وقوله : { ولما سُقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ] . فرجوع موسى معلوم من تَحقق انقضاء المدة الموعود بها ، وكونُه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوحى إليه فأعلمه بما صنع قومُه في مغيبه ، وقد صرح بذلك في سورة طه ( 85 ) { قال فإنّا قد فتنّا قومك من بَعدِك وأضلهم السامري } ف { غضبان أسِفاً } حَالان من موسى ، فهما قيدانِ ل{ رجع } فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع .
والغْضب تقدم في قوله : { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } في هذه السورة ( 71 ) .
والأَسِف بدون مد ، صيغة مبالغة للآسف بالمد الذي هو اسم فاعل للذي حل به الأسف وهو الحزن الشديد ، أي رجع غضْبان من عصْيان قومه حزيناً على فساد أحوالهم ، وبئسما ضد نِعمّا ، وقد مضى القول عليه في قوله تعالى : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } في سورة البقرة ( 93 ) ، والمعنى بئست خلافة خلفتمونيها خِلاَفتُكم .
وتقدم الكلام على فعل خَلف في قوله : { اخلُفْني في قومي } [ الأعراف : 142 ] قريباً .
وهذا خطاب لهارون ووجوه القوم ، لأنهم خلفاء موسى في قومهم فيكون { خلفتموني } مستعملاً في حقيقته ، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع القوم ، فأما هارون فلأنه لم يُحسن الخلافة بسياسة الأمة كما كان يسوسها موسى ، وأما القوم فلأنهم عبدوا العجل بعد غيبة موسى ، ومن لوازم الخلافة فعل ما كان يفعله المخلُوف عنه ، فهم لما تركوا ما كان يفعله موسى من عبادة الله وصاروا إلى عبادة العجل فقد انحرفوا عن سيرته فلم يخلفوه في سيرته ، وإطلاق الخلافة على هذا المعنى مجاز فيكون فعل { خلفتموني } مستعملاً في حقيقته ومجازه .
وزيادة { مِن بعدي } عقب { خلفتموني } للتذكير بالبَون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوفَ عنه تصوير لفظاعة ما خلفوه به أي بعدما سمعتم مني التحذير من الإشراك وزجركم عن تقليد المشركين حين قلتم : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، فيكون قيد { من بعدي } للكشف وتصوير الحالة كقوله تعالى : { فخَر عليهم السقْف من فوقِهم } [ النحل : 26 ] ، ومعلوم أن السقف لا يكون إلاّ من فوق ، ولكنه ذكر لتصوير حالة الخرور وتهويلها ، ونظيره قوله تعالى ، بعد ذكر نفر من الأنبياء وصفاتهم ، { فخلف من بعدهم خَلْف } [ الأعراف : 169 ] أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصفات .
و« عَجلَ » أكثرَ ما يستعمل قاصراً ، بمعنى فعل العجلة أي السرعة ، وقد يتعدى إلى المعمول « بعن » فيقال : عجلَ عن كذا بمعنى لم يتمّه بعد أن شَرع فيه ، وضده تَم على الأمر إذا شرع فيه فأتمّه ، ويستعمل عَجِل مضمناً معنى سَبَق فعّدَيَ بنفسه على اعتبار هذا المعنى ، وهو استعمال كثير .
ومعنى « عَجِل » هنا يَجوز أن يكون بمعنى لم يُتّمَ ، وتكون تعديته إلى المفعول على نزع الخافض .
والأمرُ يكون بمعنى التكليف وهو ما أمرهم الله به : من المحافظة على الشريعة ، وانتظار رجوعه ، فلم يتموا ذلك واستعجلوا فبدلوا وغيروا ، ويجوز أن يكون بمعنى سَبق أي بادرتم فيكون الأمر بمعنى الشأن أي الغضب والسخط كقوله : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ النحل : 1 ] وقوله : { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } [ هود : 40 ] فالأمر هو الوعيد ، فإن الله حذرهم من عبادة الأصنام وتوعدهم ، فكان الظن بهم إن وقع منهم ذلك إن يقع بعد طول المدة ، فلما فعلوا ما نُهوا عنه بحدثان عهد النهي ، جُعلوا سابقين له على طريقة الاستعارة : شبهوا في مبادرتهم إلى أسباب الغضب والسخط بسبق السابق المسبوقَ ، وهذا هو المعنى الأوضح ، ويوضحه قوله ، في نظير هذه القصة في سورة طه ( 86 ) ، حكاية عن موسى : { قال يا قوم ألم يَعدْكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } وقد تعرضت التوراة إلى شيء من هذا المعنى في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج « وقال الله لموسى رأيتُ هذا الشّعْب فإذا هو شعب صلْب الرقبة فالآن اتركني ليحميَ غَضبي عليهم فأفنيهم » .
وإلقاء الألواح رَميُها من يده إلى الأرض ، وقد تقدم بيان الإلقاء آنفاً . وذلك يؤذن بأنه لما نزل من المناجاة كانت الألواح في يده كما صرح به في التوراة .
ثم إن إلقاءه إياها إنما كان إظهاراً للغضب ، أو أثراً من آثار فوران الغضب لما شاهدهم على تلك الحالة ، وما ذكر القرآن ذلك الإلقاءَ إلاّ للدلالة على هذا المعنى إذ ليس فيه من فوائد العبرة في القصة إلاّ ذلك ، فلا يستقيم قول من فسرها بأن الإلقاء لأجل إشغال يده بجرّ رأس أخيه ، لأن ذكر ذلك لا جرور فيه ، ولأنه لو كان كذلك لعطف ، وأخذ برأس أخيه بالفاء .
وروي أن موسى عليه السلام كان في خلقه ضيق ، وكان شديداً عند الغضب ، ولذلك وكزَ القبطي فقضى عليه ، ولذلك أخذ برأس أخيه يجره إليه ، فهو دليل على فظاعة الفعل الذي شاهده من قومه ، وذلك علامة على الفظاعة ، وتشنيع عليهم ، وليس تأديباً لهم ، لأنه لا يكون تأديبهم بإلقاء ألواح كُتب فيها ما يصلحهم ، لأن ذلك لا يناسب تصرف النبوءة ( ولذلك جزمنا بأن إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة الكتاب الذي هَمَّ بكتابته قبيل وفاته لم يكن تأديباً للقوم على اختلافهم عنده ، كما هو ظاهر قول ابن عباس ، بل إنما كان ذلك لِما رأى من اختلافهم في ذلك ، فرأى أن الأوْلى ترك كتابته ، إذ لم يكن الدين محتاجاً إليه ) ووقع في التوراة أن الألواح تكسرت حين ألقاها ، وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى أن التعبير بالإلقاء الذي هو الرمي ، ومَا روي من أن الألواح كانت من حجر ، يقتضي أنها اعتراها انكسار ، ولكن ذلك الانكسار لا يُذهب ما احتوت عليه من الكتابة ، وأما ما روي أنها لما تكسرت ذهب ستة أسباعها ، أو ذهب تفصيلها وبقيت موعظتها ، فهو من وضع القصّاصين والله تعالى يقول : { ولما سكت عن موسى الغضبُ أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } [ الأعراف : 154 ] .
وأما أخذه برأس أخيه هارون يجره إليه ، أي إمساكه بشعر رأسه ، وذلك يولمه ، فذلك تأنيب لهارون على عدم أخذه بالشدة على عَبدَة العجل ، واقتصاره على تغيير ذلك عليهم بالقول ، وذلك دليل على أنه غير معذور في اجتهاده الذي أفصح عنه بقوله : { إني خشيت أن تقول فرقْت بين بني إسرائيل ولم تَرْقُب قولي } [ طه : 94 ] لأن ضعف مستنده جعله بحيث يستحق التأديب ، ولم يكن له عذراً ، وكان موسى هو الرسول لبني إسرائيل ، وما هارون إلاّ من جملة قومه بهذا الاعتبار ، وإنما كان هارون رسولاً مع موسى لفرعون خاصة ، ولذلك لم يسَعْ هارونَ إلاّ الاعتذارُ والاستصفاح منه .
وفي هذا دليل على أن الخطأ في الاجتهاد مع وضوح الأدلة غير معذور فيه صاحبه في إجراء الأحكام عليه ، وهو ما يسميه الفقهاء بالتأويل البَعيد ولا يظن بأن موسى عاقب هارون قبل تحقق التقصير .
وفصلت جملةٌ : { قال ابن أم } لوقوعها جوابها لحوار مقدر دل عليه قوله { وأخذ برأس أخيه يجره إليه } لأن الشأن أن ذلك لا يقع إلاّ مع كلام توبيخ ، وهو ما حكي في سورة طه ( 92 ، 93 ) بقوله : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضَلوا ألاَّ تتبعنِي أفعصيت أمري } على عادة القرآن في توزيع القصة ، واقتصاراً على موقع العبرة ؛ ليخالف أسلوبُ قصَصه الذي قصد منه الموعظة أساليبَ القصّاصين الذين يقصدون الخبر بكل ما حدث .
و { ابنَ أم } منادى بحذف حرف النداء ، والنداء بهذا الوصف للترقيق والاستشفاع ، وحذف حرف النداء لإظهار ما صاحب هارون من الرعب والاضطراب ، أو لأن كلامه هذا وقع بعد كلام سبقه فيه حرف النداء وهو المحكي في سورة طه ( 94 ) { قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي } ثم قال ، بعد ذلك { ابنَ أم إن القوم استضعفوني } فهما كلامان متعاقبان ، ويظهر أن المحكي هنا هو القول الثاني ، وأن ما في سورة طه هو الذي ابتدأ به هارون ، لأنه كان جواباً عن قول موسى : { ما منعك إذ رأيتهم ضَلوا أن لا تتبعني } [ طه : 92 ، 93 ] .
واختيار التعريف بالإضافة ؛ لتضمن المضاف إليه معنى التذكير بصلة الرحم ، لأن إخوة الأم أشد أواصر القرابة ؛ لاشتراك الأخوين في الألف من وقت الصبا والرضاع .
وفتح الميم في { ابن أم } قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عَمرو ، وحفص عن عاصم ، وهي لغة مشهورة في المنادى المضاف إلى أم أو عَم ، وذلك بحذف ياء المتكلم وتعويض ألف عنها في آخر المنادى ، ثم يحذف ذلك الألف تخفيفاً ، ويجوز بقاء كسرة الميم على الأصل ، وهي لغة مشهورة أيضاً ، وبها قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلفٌ .
وتقدم الكلام على الأم عند قوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } في سورة النساء ( 23 ) .
وتأكيد الخبر ب { إن } لتحقيقه لدى موسى ، لأنه بحيث يتردد فيه قبل إخبار المخبر به ، والتأكيدُ يستدعيه قبولُ الخبر للتردد من قِبَل إخبار المخبر به ، وإن كان المخبر لا يُظن به الكذب ، أو لئلا يظن به أنه تَوهم ذلك من حال قومه ، وكانت حالهم دون ذلك .
والسين والتاء في { استضعفوني } للحسبان أي حسبوني ضعيفاً لا ناصر لي ، لأنهم تمالؤوا على عبادة العجل ولم يخالفهم إلا هارون في شرذمة قليلة .
وقوله : { وكادوا يقتلونني } يدل على أنه عارضهم معارضة شديدة ثم سلّم خشيةَ القتل .
والتفريع في قوله : { فَلا تُشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين } تفريع على تبين عذره في إقرارهم على ذلك ، فطلب من أخيه الكف عن عقابه الذي يَشْمت به الأعداء لأجله ، ويجعله مع عداد الظالمين فطلبُ ذلك كنايةٌ عن طلب الإعراض عن العقاب .
والشماتة : سُرور النفس بما يصيب غيرها من الإضرار ، وإنما تحصل من العداوة والحسد . وفعلَها قاصر كفرح ، ومصدرها مخالف للقياس ، ويتعدى الفعل إلى المفعول بالباء يقال : شَمتَ به : أي : كان شامتاً بسببه ، وأشمته به جعله شامتاً به ، وأراد بالأعداء الذين دعوا إلى عبادة العجل ، لأن هارون أنكره عليهم فكرهوه لذلك ، ويجوز أن تكون شماتةُ الأعداء كلمة جرت مجرى المثل في الشيء الذي يُلحق بالمرءِ سوءاً شديداً ، سواء كان للمرء أعداء أو لم يكونوا ، جرياً على غالب العرْف .
ومعنى { ولا تجعلْني مع القوم الظالمين } لا تحسبني واحداً منهم ، ف ( جعل ) بمعنى ظن كقوله تعالى : { وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمان إناثاً } [ الزخرف : 19 ] . والقوم الظالمون هم الذين أشركوا بالله عبادة العجل ، ويجوز أن يكون المعنى : ولا تجعلني في العقوبة معهم ، لأن مُوسى قد أمر بقتل الذين عَبدوا العجل ، ف ( جعل ) على أصلها .