قوله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الآية . قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله : { والسابقون } . واختلفوا في السابقين الأولين ، قال سعيد بن المسيب ، وقتاد وابن سيرين وجماعة : هم الذين صلوا إلى القبلتين . وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر . وقال الشعبي : هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية . واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة ، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال بعضهم : أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو قول جابر ، قال مجاهد وابن إسحاق ، أسلم وهو ابن عشر سنين . وقال بعضهم : أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي . وقال بعضهم : أول من أسلم زيد بن حارثة ، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير . وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومن العبيد زيد بن حارثة . قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله رسوله ، وكان رجلا محببا سهلا كان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها ، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ، فأسلم على يديه - فيما بلغني - : عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام . ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام ، أما السابقون من الأنصار : فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وكانوا ستة في العقبة الأولى ، وسبعين في الثانية ، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن ، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان . قوله عز وجل : { والسابقون الأولون من المهاجرين } الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم . { والأنصار } أي : ومن الأنصار ، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه ، { والذين اتبعوهم بإحسان } . قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين . وقيل : هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة . وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء . وقال أبو صخر حميد بن زياد : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم ، فقلت : من أين تقول هذا ؟ فقال : يا هذا اقرأ قول الله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } إلى أن قال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ، وقال : { والذين اتبعوهم بإحسان } ، شرط في التابعين شريطة وهى أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة . قال أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط . روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " . ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } ، قرأ ابن كثير : " من تحتها الأنهار " ، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة ، { خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله : والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ يقول : والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، طَلَبَ رضا الله ، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ .
واختلف أهل التأويل في المعنى بقوله : والسّابِقُونَ الأوّلُونَ فقال بعضهم : هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أو أدركوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن إسماعيل ، عن عامر : والسّابِقُونَ الأوّلُونَ قال : من أدرك بيعة الرضوان .
قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عامر ، قال : المُهاجِرُونَ الأوّلُونَ من أدرك البيعة تحت الشجرة .
حدثنا ابن بشار ، قال حدثنا يحيى ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : المُهاجِرُونَ الأوّلون الذين شهدوا بيعة الرضوان .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن مطرف ، عن الشعبيّ ، قال : المهاجرون الأوّلون : من كان قبل البيعة إلى البيعة فهم المهاجرون الأولون ، ومن كان بعد البيعة فليس من المهاجرين الأوّلين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل ومطرّف عن الشعبي ، قال : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ هم الذين بايعوا بيعة الرضوان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن داود ، عن عامر ، قال : فصل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحُديبية .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرّف ، عن الشعبي ، قال : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبثر أبو زبيد ، عن مطرف ، الشعبي ، قال : المهاجرون الأوّلون : من أدرك بيعة الرضوان .
وقال آخرون : بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس ، عن عثمان الثقفي ، عن مولى لأبي موسى ، عن أبي موسى ، قال : المهاجرون الأوّلون : مَنْ صلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن مولى لأبي موسى ، قال : سألت أبا موسى الأشعري ، عن قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي هلال ، عن أبي قتادة ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : لم سموا المهاجرين الأوّلين ؟ قال : من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعا ، فهو من المهاجرين الأوّلين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : المهاجرون الأوّلون : الذين صلوا القبلتين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيّبِ ، قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عباس بن الوليد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، وعن أشعث ، عن ابن سيرين في قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ قال : هم الذين صلوا القبلتين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد ، قال : المهاجرون الأوّلون : الذين صلوا القبلتين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ قال : هم الذين صلوا القبلتين جميعا .
وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأوّلين والأنصار بإحسان ، فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير . كما :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ قال : من أقرأك هذه الآية ؟ قال أقرأنيها أبيّ بن كعب . قال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فأتاه فقال : أنت أقرأت هذا هذه الآية ؟ قال نعم ، قال : وسمعَتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا . قال : وتصديق ذلك في أوّل الآية التي في أوّل الجمعة ، وأوسط الحشر ، وآخر الأنفال أما أوّل الجمعة : وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، وأوسط الحشر : وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ ، وأما آخر الأنفال : والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأولَئِكَ مِنْكُمْ .
حدثنا أبو كريب ، حدثنا الحسن بن عطية ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ : السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصَارِ . . . حتى بلغ : وَرَضُوا عَنْهُ قال : وأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ قال : أبيّ بن كعب . فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم ، قال : أنت سمعَتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، فقال أبيّ : بلى تصديق هذه الآية في أوّل سورة الجمعة : وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ . . . إلى : وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ، وفي سورة الحشر : وَالّذِينَ جَاءُوا مِنَ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوانِنا الّذِينَ سَبَقُونَا بالإِيمَانِ ، وفي الأنفال : والّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأُلَئِكَ مِنْكُمْ . . . إلى آخر الآية .
حدثني به أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن حبيب بن الشهيد ، وعن ابن عامر الأنصاري ، أن عمر بن الخطاب قرأ : «السّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارُ الّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ » فرفع «الأنصار » ولم يلحق الواو في «الذين » ، فقال له زيد بن ثابت : «والذين اتبعوهم بإحسان » ، فقال عمر : «الذين اتبعوهم بإحسان » . فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم فقال عمر : ائتوني بأبيّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك ، فقال أبي : والّذِينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسانٍ فقال عمر : إذا نُتابع أبيّا .
والقراءة على خفض «الأنصار » عطفا بهم على «المهاجرين » . وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ : «الأنصارُ » بالرفع عطفا بهم على «السابقين » .
والقراءة التي لا أستجيز غيرها الخفض في «الأنصار » ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأن السابق كان من الفريقين جميعا من المهاجرين والأنصار . وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين دون الخبر عن الجميع ، وإلحاق الواو في «الذين اتبعوهم بإحسان » ، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعا ، على أن التابعين بإحسان غير المهاجرين والأنصار . وأما السابقون فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله : رَضِي اللّهُ عَنْهُمْ ورضُوا عَنْهُ . ومعنى الكلام : رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه ، ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام ، وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار يدخلونها خالدين فيها لابثين فيها أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها ، ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
عُقِّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذِي مُتطلب الصلاح حذوَهم ، ولئلا يخلوَ تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحَواليها وبَواديها ، عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به . وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها .
فالجملة عطف على جملة : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } [ التوبة : 98 ] .
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان ، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين ، والكفار الصرحاء ، والكفار المنافقين ؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم ، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان ، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية .
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معاً ، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة : من صلى القبلتين . وقال عطاء : من شهد بدراً . وقال الشعبي : من أدركوا بيعة الرضوان . وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله : { والأنصار } للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين ، وهذا يخص المهاجرين . وفي « أحكام ابن العربي » ما يشبه أنَّ رأيه أن السابقين أصحاب العقبتين ، وذلك يخص الأنصار . وعن الجبائي : أن السابقين مَن أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل .
واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة ، أي بفتح مكة ، وهذا يَقصر وصفَ السبق على المهاجرين . ولا يلاقي قراءة الجمهور بخفض { الأنصار } . و { من } للتبعيض لا للبيان .
والأنصار : جمع نصير ، وهو الناصر . والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوْس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان . دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف ، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد .
وقرأ الجمهور { والأنصار } بالخفض عطفاً على المهاجرين ، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار . وقرأ يعقوب { والأنصارُ } بالرفع ، فيكون عطفاً على وصف { السابقون } ويكون المقسَّم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين .
والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم في الإيمان ، أي آمنوا بعد السابقين : ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة .
والإحسان : هو العمل الصالح . والباء للملابسة . وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص ، فهم محسنون ، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة ، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد ، مثل المؤلفة قلوبهم ، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل ، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات .
وجملة : { رضي الله عنهم } خبر عن { السابقون } . وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد . ورضَى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءَهم ، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم .
والإعداد : التهيئة . وفيه إشعار بالعناية والكرامة . وتقدم القول في معنى جري الأنهار .
وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها ( مِنْ ) مع ( تَحتِها ) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء ، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف ( من ) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد ، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، ومن فعل ( أعد ) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه .
وثبتت ( مِن ) في مصحف مَكة ، وهي قراءة ابن كثير المكي ، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين .