القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد وطّأنا لكم أيها الناس في الأرض ، وجعلناها لكم قرارا تستقرّون فيها ، ومهادا تمتهدونها ، وفراشا تفترشونها . وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها أيام حياتكم ، من مطاعم ومشارب ، نعمة مني عليكم وإحسانا مني إليكم . قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ يقول : وأنتم قليل شكركم على هذه النعم التي أنعمتها عليكم لعبادتكم غيري ، واتخاذكم إلها سواي . والمعايش : جمع معيشة . واختلفت القرّاء في قراءتها ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : مَعايِشَ بغير همز ، وقرأه عبد الرحمن الأعرج : «مَعائِشَ » بالهمز .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : مَعايِشَ بغير همز ، لأنها مفاعل من قول القائل : عشت تعيش ، فالميم فيها زائدة والياء في الحكم متحرّكة ، لأن واحدها مَفْعَلَة مَعْيَشَة متحركة الياء ، نُقلت حركة الياء منها إلى العين في واحدها فلما جمعت ردّت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها . وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال مفاعل ، وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال فعائل التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل ، فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال فالعرب تهمزه كقولهم : هذه مدائن وصحائف ونظائر ، لأن مدائن جمع مدينة ، والمدينة : فعيلة من قولهم : مدنت المدينة ، وكذلك صحائف جمع صحيفة ، والصحيفة فعيلة من قولك : صحفت الصحيفة ، فالياء في واحدها زائدة ساكنة ، فإذا جمعت همزت لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها ، وذلك أنها كانت في واحدها ساكنة ، وهي في الجمع متحركة ، ولو جعلت مدينة مَفْعلة من دان يدين ، وجمعت على مفاعل ، كان الفصيح ترك الهمز فيها وتحريك الياء . وربما همزت العرب جمع مفعلة في ذوات الياء والواو وإن كان الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها ، إذا جاءت على مفاعل تشبيها منهم جمعها بجمع فعيلة ، كما تشبه مَفْعلاً بفَعِيل ، فتقول : مَسِيل الماء ، من سَال يسيل ، ثم تجمعها جمع «فعيل » ، فتقول : هي أَمْسِلَة في الجمع تشبيها منهم لها بجمع بعير وهو فعيل ، إذ تجمعه أبْعِرة ، وكذلك يجمع المصير وهو مَفْعل مُصْران ، تشبيها له بمع بعير وهو فعيل ، إذ تجمعه بُعران ، وعلى هذا همز الأعرج : مَعائِشَ ، وذلك ليس بالفصيح في كلامها . وأولى ما قرىء به كتاب الله من الألسن ، أفصحها وأعرفها دون أنكرها وأشذّها .
عطف على جملة : { ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } [ الأعراف : 3 ] فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق ، لأنّه خالقهم على وجه الأرض ، وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم ، وتوبيخ على قلّة شكرها ، كما دلّ عليه تذييل الجملة بقوله : { قليلاً ما تشكرون } فإنّ النّفوس التي لا يزجُرها التّهديد قد تنفعها الذكريات الصّالحة ، وقد قال أحد الخوارج وطُلب منه أن يخرج إلى قتال الحجّاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نِعماً :
أأقَاتِلُ الحجّاجَ عن سلطانه *** بيدٍ تُقِرّ بأنَّها مَوْلاَتِه
وتأكيد الخبر بلام القسم وقد ، المفيد للتّحقيقِ ، تنزيلٌ للذين هم المقصود من الخطاب منزّلة من ينكر مضمون الخبر لأنّهم لما عَبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أنّ الله هو الذي مكَّنهم من الأرض ، أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله .
والتّمكين جعل الشّيء في مكان ، وهو يطلق على الإقدار على التّصرف ، على سبيل الكناية ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { مَكَّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم } في سورة الأنعام ( 6 ) وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصّريح ، أي جعلنا لكم قدرة ، أي أقدَرناكم على أمور الأرض وخوّلناكم التّصرف في مخلوقاتها ، وذلك بما أودع الله في البشر من قوّة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتّغلّب على مصاعبه ، وليس المراد من التّمكين هنا القوّة والحكم كالمراد في قوله تعالى : { إنا مكنا له في الأرض } [ الكهف : 84 ] لأنّ ذلك ليس حاصلاً بجميع البشر إلاّ على تأويل ، وليس المراد بالتمكين أيضاً معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأنّ قوله : { في الأرض } يمنع من ذلك ، لأنّه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرضَ ، وقد قال تعالى عن عاد : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } [ الأحقاف : 26 ] أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم ممّا أقدرناكم عليه ، أي في آثارهم في الأرض أمّا أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما .
ومعايش جمع معيشه ، وهي ما يعيش به الحيّ من الطّعام والشّراب ، مشتقّة من العيش وهو الحياة ، وأصل المعيشة اسم مصدر عاش قال تعالى : { فإن له معيشة ضنكاً } [ طه : 124 ] سمي به الشّيء الذي يحصل به العيش ، تسمية للشّيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتّى صار مساوياً للحقيقة .
وياء ( معايش ) أصل في الكلمة لأنّها عين الكلمة من المصدر ( عَيْش ) فوزن معيشة مفعلة ومعايش مَفاعل ، فحقّها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة . لأن استعمال العرب في حرف المدّ الذي في المفرد أنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة ردّوه إلى أصله واواً أو ياء بعد ألف الجمع ، مثل : مفَازة ومفاوِز ، فيما أصله واو من الفوز ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء ، فإذا كان حرف المدّ في المفرد غير أصلي فإنّهم إذا جمعوه جمعاً بألف زائدة قلبوا حرف المد همزة نحو قِلاَدة وقلائِد ، وعَجُوز وعجَائز ، وصحيفَه وصحائف ، وهذا الاستعمال من لطائف التّفرقه بين حرف المد الأصلي والمد الزّائد واتّفق القراء على قراءته بالياء ، وروى خارجة بن مصعب ، وحميد بن عمير ، عن نافع أنّه قرأ : معائش بهمز بعد الألف ، وهي رواية شاذة عنه لا يُعْبَأ بها ، وقُرىء في الشاذ : بالهمز ، رواه عن الأعرج ، وفي « الكشاف » نسبة هذه القراءة إلى ابن عامر وهو سهو من الزمخشري .
وقوله : { قليلاً ما تشكرون } هو كقوله في أوّل السّورة { قليلاً ما تذكّرون } [ الأعراف : 3 ] ونظائره .
والخطاب للمشركين خاصة ، لأنّهم الذين قَل شكرهم لله تعالى إذا اتّخذوا معه آلهة .
ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدّم آنفاً في أوّل السّورة ، ويجوز أن يكون على حقيقته أي إن شكركم الله قليل . لأنّهم لمّا عرفوا أنّه ربّهم فقد شَكروه ، ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها ، ويجوز أن تكون القلّة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالاً لتذكرهم .
وانتصب ( قليلاً ) على الحال من ضمير المخاطبين و ( ما ) مصدريّة ، والمصدر المؤول في محلّ الفاعل بقليلاً فهي حال سببيّة .
وفي التّعقيب بهذه الآية لآية : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] إيماء إلى أنّ إهمال شكر النّعمة يعرّض صاحبها لزوالها ، وهو ما دلّ عليه قوله : { أهلكناها } .