{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } روى الوالبي عن ابن عباس : في نصب . قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وقال قتادة : في مشقة فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا . وقال سعيد بن جبير : في شدة . وقال عطاء عن ابن عباس : في شدة خلق حمله وولادته ورضاعه ، وفطامه وفصاله ومعاشه وحياته وموته . وقال عمرو بن دينار : عند نبات أسنانه . قال يمان : لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق . وأصل الكبد : الشدة . وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والضحاك : يعني منتصباً معتدل القامة ، وكل شيء خلق فإنه يمشي مكباً ، وهي رواية مقسم عن ابن عباس ، وأصل الكبد : الاستواء والاستقامة . وقال ابن كيسان : منتصباً رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله في خروجه انقلب رأسه إلى رجلي أمه . وقال مقاتل : في كبد أي في قوة . نزلت في أبي الأشد ، واسمه أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديداً قوياً يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعاً ويبقى موضع قدميه .
وقوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ وهذا هو جواب القسم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : وقع ها هنا القسم لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ يقول : في نَصَب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، أنه قال في هذه الاَية : لَقَدْ خَلَقَنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ يقول : في شدّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ حين خُلِق في مشقة لا يُلفى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والاَخرة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فِي كَبَدٍ قال : يكابد أمر الدنيا والاَخرة .
وقال بعضهم : خُلِق خَلْقا لم نَخْلق خلقَه شيئا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عليّ بن رفاعة ، قال : سمعت الحسن يقول : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يُكابد ابن آدم .
قال : ثنا وكيع ، عن عليّ بن رفاعة ، قال : سمعت سعيد بن أبي الحسن يقول : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : يكابد مصائب الدنيا ، وشدائد الاَخرة .
قال : ثنا وكيع ، عن النضر ، عن عكرِمة قال : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في شدّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في شدّة .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : في شدّة معيشته ، وحمله وحياته ، ونبات أسنانه .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال مجاهد الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : شدة خروج أسنانه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : شدّة .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه خُلق منتصبا معتدل القامة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في انتصاب ، ويقال : في شدّة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عُمارة ، عن عكرِمة ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في انتصاب ، يعني القامة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : منتصبا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن شَدّاد ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : معتدلاً بالقامة ، قال أبو صالح : معتدلاً في القامة .
حدثنا يحيى بن داود الواسطيّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ قال : قائما .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : فِي كَبَدٍ خُلِق منتصبا على رجلين ، لم تخلق دابة على خلقه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن مجاهد لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في صَعَد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنه خُلق في السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ فِي كَبَدٍ قال : في السماء ، يسمى ذلك الكَبَد .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك أنه خلق يُكابد الأمور ويُعالجها ، فقوله : فِي كَبَدٍ معناه : في شدّة .
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب من معاني الكَبَد ومنه قول لبيد بن ربيعة :
عَيْنِ هِلاّ بَكَيْتِ أرْبَدَ إذْ *** قُمْنا وَقامَ الخُصُوم فِي كَبَدِ
وجملة : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } جواب القسم وهو الغرض من السورة .
والإِنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقولُ جمهور المفسرين ، فالتعريف فيه تعريف الجنس ، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين ، فالعموم عموم عرفي ، أي الإنسان في عُرف الناس يومئذ ، ولم يكن المسلمون إلا نفراً قليلاً ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإِنسان مراداً به الكافرون من الناس .
ويجوز أن يراد به إنسان معيّن ، فالتعريف تعريف العهد ، فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال : أبو الأشَدّيْن واسمه أُسَيْد بن كَلْدَةَ الجُمَحِي كان معروفاً بالقوّة والشدة يجعل الأديم العُكَاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني فله كذا . فيجذبه عشرةُ رجال حتى يمزَّق الأديم ولا تزول قدماه ، وكان شديد الكفر والعداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم فنزل فيه : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] وقيل : هو الوليد بن المغيرة ، وقيل : هو أبو جهل . وعن مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ، زعم أنه أنفق مالاً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلْف الخندق .
وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القَسَم ولا السياق .
والخلق : إيجاد ما لم يكن موجوداً ، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } [ الزمر : 6 ] وقوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } [ المائدة : 110 ] . فهو جعل يغير ذات الشيء .
والكَبَد بفتحتين : التعب والشدة ، وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد ، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار ، حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التِئامُه ، ويَحِق وِءَامُه .
وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل { خلقنا } على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل { خلقنا } كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه . وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم ، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة . واضطرابُ رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر . ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } دليل مقصوداً وحده بل هو توطئة لقوله : { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } [ البلد : 5 ] . والمقصود إثبات إعادة خلق الإِنسان بعد الموت للبعثِ والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سُور كثيرة من السور الأولى .
فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 4 ، 5 ] بعد القسم بقوله : { التين والزيتون } [ التين : 1 ] الخ .