تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِي كَبَدٍ} (4)

الآية 4 : وقوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } قال بعضهم : الكبد الانتصاب ؛ أخبر [ أنه ]{[23635]} خلق الإنسان منتصبا ، وخلق كل دابة منكبة ، وقال بعضهم : الكبد الشدة والمعاناة . وقال بعضهم : خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلبه{[23636]} وقت الانفصال .

ولقائل أن يقول : أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم ؟ وكل يعلم أنه خلق كذلك .

فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا ، بل خلقهم الله تعالى ليمتحنهم ، ويأمرهم بالعبادة كما قال : { وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون } [ الذريات : 56 ] .

فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله أنه خلقهم الله تعالى ليكابدوا للمعاش والمعاد جميعا ، وخلقهم للشدة ليعتبروا ، ويتذكروا .

وإن كان منصرفا إلى الانتصاب ففيه تعريف لعظم نعم الله تعالى عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك ليستأدي منهم الشكر بذلك .

وإن كان التأويل على ما ذكر أنه خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلبه{[23637]} وقت الانفصال ففيه أن الله تعالى قادر على ما يشاء وأنه لا يعجزه شيء ، [ ولا يتهيأ ]{[23638]} لأحد أن يقلب{[23639]} أحدا ، فيجعل أعلاه أسفله إلا أن يجد مثله في المكان سعة .

ثم إن الله تعالى قلبه ، فجعل أعلاه أسفله في ذلك المكان الضيق ، فتبين لهم أنه لا يعجزه شيء فيحملهم ذلك على الإيمان بالبعث والنشور ، والله أعلم .

ومعنى قوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } عندنا : لقد خلقنا الإنسان لما له مكابدته في أمر الشيطان فهو للنار خلق . وعلى هذا يخرج قوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] أي ذرأ من يعلم أنه يؤثر طاعة الشيطان وعصيان الرحمن لجهنم ، وذرأ من يعلم أنه يعلم أنه يعبد الله ، ويوحده للعبادة بقوله : { وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون } .

والأصل أن الحكم أبدا تقصد بفعله العاقبة إلا الذي ليست له معرفة بالعاقبة . فأما من عرف العاقبة فابتداء فعله يقع لتلك العاقبة [ فإن كانت عاقبته ]{[23640]} النار فابتداء الخلق من الله تعالى يقع/642 – أ/لذلك الوجه ، وإن كانت العاقبة الجنة فهو لذلك الوجه الذي خلق .

فعلى ذلك يخرج تأويل قوله عليه السلام : ( ( السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه ) ) ( البزار في كشف الأستار 2150 ) وهو لا يوصف بالسعادة والشقاوة في ذلك الوقت ، ولكن معناه أنه إذا آثر الشقاوة في حالة الامتحان خلق لذلك ، وإذا آثر السعادة فلذلك أيضا .

وقال نوح عليه السلام : { ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } [ نوح : 27 ] وهم في وقت ما ولدوا غير موصوفين بواحد من الوصفين ، بل يصيروا كذلك ، فتبين أنهم خلقوا لذلك .

وقد{[23641]} وقع القسم على ما له يكابد ، ليس على المكابدة نفسها ، لأن المكابدة من الإنسان ظاهرة لا يحتاج إلى تأكيدها بالقسم ، وقولنا : إن المقصود من ابتداء الفعل قول النبي عليه السلام : ( ( إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته ، فإن كان رشدا فامضه ، وإن كان غيا فانته عنه ) ) ( الزبيدي في الإتحاف 10/93 ، وعزاه لابن المبارك في الزهد ) .

وزعمت المعتزلة أن الله تعالى لم يخلق أحدا من البشر إلا ليعبده ، ولو كان الأمر على ما زعموا ، وظنوا لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب ، أو وجب أن يكون العقل خارجا مخرج الخطإ لأن كل من صنع أمرا يريد غير الذي يكون [ يكن ]{[23642]} جاهلا بالعواقب أو عابثا بالفعل لأن من أنشأ الشيء يعلم أنه لا يكون عد ذلك منه عبثا ، ولو كان غير الذي يريده ، وهو أن يبني ليسكن ، كان الذي حمله على البناء جهله بالعواقب ، وجل الله تعالى عن أن يلحقه خطأ في التدبير أو جهل بالعواقب .

فثبت بما ذكرنا أن الله تعالى شاء لكل فريق ما علم الذي يكون منهم ، وخلقهم لذلك الوجه دون أن يكون خلق الجملة للعبادة ، والله أعلم .


[23635]:ساقطة من الأصل وم.
[23636]:في الأصل وم: يقلب.
[23637]:في الأصل وم: يقلب.
[23638]:في الأصل وم: لأنه لا يتهيأ.
[23639]:في الأصل وم: القلب.
[23640]:من م، ساقطة من الأصل .
[23641]:في الأصل وم: فمن.
[23642]:ساقطة من الأصل وم.