اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِي كَبَدٍ} (4)

قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ } : هذا هو المقسم عليه ، والكبد : المشقة .

قال الزمخشريُّ{[60209]} : والكَبدُ : أصله من قولك : كبدَ الرجل كبداً ، فهو أكْبَد ، إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه ، حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المُكابَدةُ ، كما قيل : كبته بمعنى أهلكه ، وأصله : كبده إذا أصاب كبده .

قال لبيد : [ المنسرح ]

5211- يَا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أربَدَ إذْ *** قُمْنَا وقَامَ الخُصومُ في كَبدِ{[60210]}

أي : في شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ؛ وقال أبو الإصبع : [ البسيط ]

5212- لِيَ ابنُ عَمٍّ لو أن النَّاس في كَبدٍ*** لظَلَّ مُحْتَجِزاً بالنَّبْلِ يَرْمينِي{[60211]}

قال القرطبيُّ{[60212]} : ومنه تكبَّد اللبن : غلظ واشتد ، ومنه الكبدُ ؛ لأنه دمٌ تغلظ واشتد ويقال : كابدتُ هذا الأمر قاسيت شدته .

فصل في المراد ب «الإنسان »

الإنسان هنا ابن آدم .

قال ابنُ عباسٍ والحسنُ : «في كبدٍ » أي : في شدة ونصبٍ{[60213]} وعن ابن عباسٍ أيضاً : في شدّة من حمله ، وولادته ، ورضاعه ونبت أسنانه ، وسائر أحواله{[60214]} .

وروى عكرمةُ عنه قال : منتصباً في بطن أمه{[60215]} ، والكبدُ : الاستواء ، والاستقامة ، فهذا امتنان عليه في الحقيقة ، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطن أمها إلاَّ منكبةً على وجهها إلا ابن آدم ، فإنه منتصب انتصاباً . وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما{[60216]} .

وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق .

[ وقال ابن كيسان : منتصباً في بطن أمه ، فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجل أمه .

وقال الحسن : كابد مصائب الدنيا ، وشدائد الآخرة ]{[60217]} .

قال بعضُ العلماء : أول ما يكابدُ قطع سرته ، ثم إذا قمط قماطاً ، وشد رباطاً ، يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته لضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، وتحرك لسانه ، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام ، ثم يكابد الخِتَان ، والأوجاع والأحزان ، ثم يكابد المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج ، ثم يكابد شغل الأولاد ، والأجناد ، ثم يكابد شغل الدُّور ، وبناء القصور ، ثم الكِبر والهرم ، وضعف الركبة والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها ، من صداع الرأس ، ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وغم الدَّينِ ، ووجع السن ، وألم الأذُنِ ، ويكابد مِحَناً في المال ، والنفس ، مثل الضرب والحبس ، ولا يمر عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت ، ثم بعد ذلك مساءلة الملك ، وضغطة القبر وظلمته ، ثم البعث ، والعرض على الله ، إلى أن يستقر به القرار ، إما في الجنة أو في النار ، قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ } فلو كان الأمر إليه ، ما اختار هذه الشَّدائد ، ودل هذا على أن له خالقاً دبره ، وقضى عليه بهذه الأحوال ، فليتمثل أمره . وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام .

وقوله تعالى : { فِي كَبَدٍ } أي : في وسط السماء .

وقال الكلبيُّ : إنَّ هذا نزل في رجل من بني جمح ، يقال له : أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة بن جُمَح ، وكان قوياً ، وكان يأخذ الأديم العكاظي ، فيجعله تحت قدميه ، فيقول : من أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة حتى يتمزّق الأديم ، ولا تزول قدماه ، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وفيه نزل : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } ، يعني : لقوته{[60218]} .


[60209]:الكشاف 4/754.
[60210]:ينظر ديوان لبيد ص 50، وإعراب القرآن 3/705، 5/229، والطبري 3/126 ومجمع البيان 10/746، والكشاف 4/704، والبحر 8/468، والدر المصون 6/525.
[60211]:ينظر إعراب القرآن 5/229، والفضليات (326)، والبحر 8/468، والدر المصون 6/525.
[60212]:الجامع لأحكام القرآن 20/42.
[60213]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/587) عن ابن عباس والحسن.
[60214]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/588) والحاكم (2/523) من طريق عطاء عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/593) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[60215]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/593) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وأخرجه الطبري (12/588) عن عكرمة.
[60216]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/588) عن إبراهيم وعكرمة والضحاك ومجاهد.
[60217]:سقط من: ب.
[60218]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/488) عن مقاتل مثله.