السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِي كَبَدٍ} (4)

والمقسم عليه قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان } ، أي : الجنس { في كبد } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أي : شدّة ونصب ، وعنه أيضاً في شدّة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه وسائر أحواله . وعن عكرمة منتصباً في بطن أمّه ، والكبد الاستواء والاستقامة ، فهذا امتنان عليه في الحقيقة ، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطنها أمّها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصاباً .

وقال ابن كيسان : منتصباً في بطن أمه فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه . وقال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق .

قال بعض العلماء أوّل ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطاً وشدّ رباطاً ، يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته ضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ من اللطام ، ثم يكابد الختان والأوجاع ، ثم المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج ، وشغل الأولاد والخدم ، وشغل المسكن والجيران ، ثم الكبر والهرم ، وضعف الركب والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وهمّ الدين ، ووجع السنّ ، وألم الأذن ، ويكابد محناً في المال والنفس من الضرب والحبس ، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة ، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت ، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته ، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار ، إما في الجنة وإما في النار ، فدل هذا على أنّ له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال ، ولو كان الأمر إليه ما أختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه . وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام .

وقوله تعالى : { في كبد } ، أي : في وسط السماء . وقال مقاتل : في كبد ، أي : في قوّة نزلت في أبي الأشدين ، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح ، وكان شديداً قوياً ، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه ، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه ، وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه نزل .