القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَتّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنّاً إَنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنّا ، يقول : إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته ، بل هم منه في شكّ وريبة . إنّ الظّنّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقّ شَيْئا يقول : إن الشكّ لا يغني من اليقين شيئا ، ولا يقوم في شيء مقامه ، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين . إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون من اتباعهم الظنّ وتكذيبهم الحقّ اليقين ، وهو لهم بالمرصاد ، حيث لا يغني عنهم ظنهم من الله شيئا .
{ وما يتّبع أكثرهم } فيما يعتقدونه . { إلا ظنا } مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ، والمراد بالأكثر الجميع أو من ينتمي منهم إلى تمييز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف . { إن الظن لا يُغني من الحق } من العلم والاعتقاد الحق . { شيئا } من الإغناء ويجوز أن يكون مفعولا به و { من الحق } حالا منه ، وفيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز . { إن الله عليم بما يفعلون } وعيد على اتباعهم للظن وإعراضهم عن البرهان .
وقوله { وما يتبع أكثرهم } ، إخبار عن فساد طرائقهم وضعف نظرهم وأنه ظن ، ثم بين منزلة الظن من المعارف وبعده من الحق ، و { الظن } في هذه الآية على بابه في أنه معتقد أحد جائزين لكن ثم ميل إلى أحدهما دون حجة تبطل الآخر ، وجواز ما اعتقده هؤلاء إنما هو بزعمهم لا في نفسه .
بل ظنهم محال في ذاته . و { الحق } أيضاً على بابه في أنه معرفة المعلوم على ما هو به . وبهذه الشروط «لا يغني الظن من الحق شيئاً » . وأما في طريق الأحكام التي تعبد الناس بظواهرها فيغني الظن في تلك الحقائق ويصرف من طريق إلى طريق . والشهادة إنما هي مظنونة . وكذلك التهم في الشهادات وغيرها تغني . وليس المراد في هذه الآية هذا النمط . وقرأ جمهور الناس . «يفعلون » وقرأ عبد الله بن مسعود «تفعلون » بالتاء على مخاطبة الحاضر .
عطف على جملة : { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق } [ يونس : 35 ] باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلَها ، فبعد أن أمر الله رسولَه بأن يحجهم فيما جعلوهم آلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها ، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتّباع لظن باطل ، أي لوهَم ليس فيه شبهة حق .
والضمير في قوله : { أكثرهم } عائد إلى أصحاب ضمير { شركائكم } [ يونس : 35 ] وضمير { ما لكم كيف تحكمون } [ يونس : 35 ] .
وإنما عَمَّهم في ضمائر { شركائِكم } و { ما لَكم كيف تحكمون } ، وخصّ بالحكم في اتِّباعهم الظن أكثرَهم ، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام . وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عُقَلاء قليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفاً ولكنهم أظهروا عبادتها تبعاً للهوَى وحفظاً للسيادة بين قومهم . والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تَخيل ، ولكن المقصود هو زيادة الاستدلال على بطلان عبادتها حتى أن من عُبَّادها فريقاً ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها . وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن . ففيه إيقاظ لجمهورهم ، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطْمئن إليه قلوبهم . وهذا كقوله الآتي : { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به } [ يونس : 40 ] .
والظن : يطلق على مراتب الإدراك ، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا يشوبه شك ، كما في قوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } [ البقرة : 45 ، 46 ] ؛ ويطلق على الاعتقاد المشوب بشك . ويظهر أنه حقيقة في هذا الثاني وأنه مجاز في الأول لكنه في الأول شائع فصار كالمشترك . وقد تقدم في سورة البقرة عند الكلام على الآية المذكورة . ومنه قوله تعالى : { قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين } في سورة [ الأعراف : 66 ] ، وقوله : { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } في سورة [ براءة : 118 ] .
وقد أطلق مجازاً على الاعتقاد المخطىء ، كما في قوله تعالى : { إن بعض الظن إثم } [ الحجرات : 12 ] وقول النبي عليه الصلاة والسلام إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث .
والظن كثر إطلاقه في القرآن والسنة على العلم المخطىء أو الجهل المركب والتخيلات الباطلة ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » وقد يطلق على الظن الحصيبي كقوله تعالى : { ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } [ النور : 12 ] وقوله تعالى : { إن بعض الظن إثم } [ الحجرات : 12 ] . وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء أصول الدين وأصول الفقه .
وهو العلم المستند إلى دليل راجح مع احتمال الخطإ احتمالاً ضعيفاً . وهذا الظن هو مناط التكليف بفروع الشريعة .
فوجه الجمع بين هذه المتعارضات إعمال كل في مورده اللائق به بحسب مقامات الكلام وسياقه ، فمحمل قوله هنا : { إن الظن لا يغني مِن الحق شيئاً } أن العلم المشوب بشك لا يغني شيئاً في إثبات الحق المطلوب وذلك ما يطلب فيه الجزم واليقينُ من العلوم الحاصلة بالدليل العقلي لأن الجزم فيها ممكن لمن أعمل رأيه إعمالاً صائباً إذ الأدلة العقلية يحصل منها اليقين ، فأما ما طريق تحصيله الأدلة الظاهرة التي لا يتأتى اليقين بها في جميع الأحوال فذلك يكتفي فيه بالظن الراجح بعد إعمال النظر وهو ما يسمى بالاجتهاد .
و { ظناً } منصوب على المفعولية به ل { يتبع } . ولما كان الظن يقتضي مظنوناً كان اتباع الظن اتباعاً للمظنون أي يتبعون شيئاً لا دليل عليه إلا الظن ، أي الاعتقاد الباطل .
وتنكير { ظناً } للتحقير ، أي ظناً واهياً . ودلت صيغة القصر على أنهم ليسوا في عقائدهم المنافية للتوحيد على شيء من الحق رداً على اعتقادهم أنهم على الحق .
وجملة : { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } تعليل لما دل عليه القصر من كونهم ليسوا على شيء من الحق فكيف يزعمون أنهم على الحق .
والحق : هو الثابت في نفس الأمر . والمراد به هنا معرفة الله وصفاته مما دل عليها الدليل العقلي مثل وجوده وحياته ، وما دل عليها فعل الله مثلُ العلم والقدرة والإرادة .
و { شيئاً } مفعول مطلق مؤكد لعامله ، أي لا يغني شيئاً من الإغناء .
و { مِن } للبدلية ، أي عوضاً عن الحق .
وجملة : { إن الله عليم بما يفعلون } استئناف للتهديد بالوعيد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين "إلا ظنّا"، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شكّ وريبة.
"إنّ الظّنّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقّ شَيْئا "يقول: إن الشكّ لا يغني من اليقين شيئا، ولا يقوم في شيء مقامه، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين. "إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ" يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون من اتباعهم الظنّ وتكذيبهم الحقّ اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يغني عنهم ظنهم من الله شيئا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الأئمة والرؤساء منهم حيث عبدوا الأصنام والأوثان وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، ونحو ذلك من القول؛ يقول: ما يتبع أكثرهم في عبادتهم الأصنام بأنهم يكونون لهم شفعاء عند اللَّه إلا ظنا ظنوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الأتباع والعوام ليس في الأئمة؛ ذلك أن الأئمة قد عرفوا البراهين والحجج التي قامت عليهم والآيات التي جاء بها رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن ما قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، ونحو ذلك من الكلام، أرادوا أن يلبسوا على العوام ويشبهوا عليهم، فاتبع العوام الأئمة فيما قالوا وأنه كذا وصدقوهم؛ يقول: وما يتبع أكثرهم الأئمة في ذلك إلا ظنًّا ظنوا.
ويشبه أن يكون قوله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) يعني: أهل مكة أي ما يتبع أكثر أهل مكة، الأوائل والأسلاف في عبادة الأصنام والأوثان. (إِلَّا ظَنًّا) لأنهم عبدوا الأصنام ويقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ...) الآية، وآباؤنا كذلك يفعلون، ثم أخبر أن الظن لا يغني من الحق شيئًا، أي: الظن لا يدرك به الحق إنما يدرك الحق باليقين، (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) وهو حرف وعيد ليكونوا أبدا على حذر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إن الله عليم بما يفعلون" فيه ضرب من التهديد، لأنه أخبر أنه تعالى يعلم ما يفعلونه ولا يخفى عليه منه شيء فيجازيهم على جميعه: على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الظَّنُّ يُنافي اليقين، فإنه ترجيح أحد طَرَفَيْ الحكم على الآخر من غير قَطْعِ.
وأربابُ الحقائق على بصيرة وقطع؛ فالظنُّ في أوصاف الحقِّ معلولٌ، والقطع- في أوصاف النَّفُس- لكل أحدٍ معلول. والعَبْدُ يجب أن يكون في الحال خالياً عن الظن إذّ لا يَعْرفُ أحدٌ غيْبَ نَفْسه في مآلِه.
وفي صفة الحقِّ يجب أن يكونَ العبدُ على قطع وبصيرة؛ فالظنُّ في الله معلول، والظن فيما مِنَ الله غير محمود. ولا يجوز بوجهٍ من الوجوه أن يكون أهلُ المعرفةِ به سبحانه- فيما يعود إلى صفته -على الظن، كيف وقد قال الله تعالى فيما أمر نبيِّه- عليه السلام- أَنْ يقول: {أَدْعُوا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتبعني} [يوسف:108]
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} في قرارهم بالله {إِلاَّ ظَنّا} لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم {إَنَّ الظن} في معرفة الله {لاَ يُغْنِى مِنَ الحق} وهو العلم {شَيْئاً} وقيل: وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنَّها شفعاء عند الله إلاّ الظنّ. والمراد بالأكثر: الجميع.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ} وعيد على ما يفعلون من اتباع الظنّ وتقليد الآباء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله {وما يتبع أكثرهم}، إخبار عن فساد طرائقهم وضعف نظرهم وأنه ظن، ثم بين منزلة الظن من المعارف وبعده من الحق، و {الظن} في هذه الآية على بابه في أنه معتقد أحد جائزين لكن ثم ميل إلى أحدهما دون حجة تبطل الآخر، وجواز ما اعتقده هؤلاء إنما هو بزعمهم لا في نفسه.
بل ظنهم محال في ذاته. و {الحق} أيضاً على بابه في أنه معرفة المعلوم على ما هو به. وبهذه الشروط «لا يغني الظن من الحق شيئاً»...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} هذا بيان لحال المشركين الاعتقادية، في إثر إقامة أنواع الحجج على توحيد الربوبية والإلهية، بأسلوب الأسئلة والأجوبة المفيدة للعلم، الهادية إلى الحق، ومنها أنه ليس في شركائهم من هدي إلى الحق المطلوب في العقائد الدال على ارتقاء العقل وعلو النفس، وهو أن أكثرهم لا يتبعون في شركهم وعبادتهم لغير ربهم، ولا في إنكارهم للبعث، وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، إلا ضربا من ضروب الظن قد يكون ضعيفا- كما يشير إليه تنكيره-، وذلك كاستبعاد غير المألوف، وقياس الغائب والمجهول على الحاضر والمعروف، وتقليد الآباء ثقة بهم، وتعظيما لشأنهم، أن يكونوا على باطل في اعتقادهم، وضلال في أعمالهم، وأما غير الأكثر فكانوا يعلمون أن ما جاءهم به الرسول هو الحق والهدى، وأن أصنامهم وغيرها مما عبدوا لا تنفع ولا تشفع، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسوله عنادا واستكبارا في الأرض، وضنا برياستهم وزعامتهم أن يهبطوا منها إلى اتباع من دونهم ثروة وقوة ومكانة في قومهم، ويجوز أن يكون التعبير بالأكثر جاء على سنة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب بالحق والعدل، فإنه تارة يحكم على أكثرهم، وتارة يستثني من الاستغراق والإطلاق القليل منهم، كما تقدم نظائره من قبل، فيكون الحكم على الأكثر للإشارة إلى أنه يقل فيهم ذو العلم، فإن قيل: وما حكم الله في الظن؟ فالجواب:
{إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} من الإغناء ولو قليلا، أي لا يجعل صاحبه غنيا بعلم اليقين في الحق، فيكون -أي الظن- بدلا من اليقين في شيء مما يطلب فيه اليقين كالدين، فإن الحق هو الأمر الثابت المتحقق الذي لا ريب في ثبوته وتحققه، والمظنون -وإن كان راجحا عند صاحبه -عرضة للشك، يتزلزل ويزول إذا عصفت به أي عاصفة من الشبهات، والإغناء يتعدى بعن كقوله: {ما أغنى عنكم جمعكم} [الأعراف: 48] {ما أغنى عني ماليه} [الحاقة: 28] {فما أغنت عنهم آلهتهم} [هود: 101] وقد عدى هنا بمن، وفي مثله من سورة النجم، وفي قوله في ظل دخان النار {لا ظليل ولا يغني من اللهب} [المرسلات: 31] وقوله في الضريع من طعام أهلها {لا يسمن ولا يغني من جوع} [الغاشية: 7] فعدى بمن لإفادة القلة أو لتضمنه معنى البدل، أي إن ظل دخان النار لا وارف يمنع الحر، ولا يغني من اللهب بأن يقلله أو يزيله، ويكون بدلا منه، وإن الضريع -الذي هو طعام أهل النار- لا يسمن البدن بالتغذية الكافية، ولا يقلل الجوع أو يزيله، فيكون بدلا من الطعام الرديء التغذية...
{إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} هذه قضية ثانية مستأنفة خاصة بالعمل، شأنها أن يسأل عنها بعد القضية التي قبلها في الاعتقاد، فهو يقول: إن الله عليم بما كانوا يفعلون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها بحسبه، فالجزاء على مخالفة الاعتقاد القطعي بصدق الرسول من تكذيب وجحود أشد أنواع الجزاء، ويليه التكذيب باتباع الظن كالتقليد، ومن تلك الأفعال الصد عن الإيمان وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنواعه، ومنها سائر الشرور والمعاصي الشخصية والاجتماعية كالقتل والفاحشة والسكر والربا...
والعبرة للمؤمن بالقرآن في هذه الآية والتي قبلها -وهما من آياته المحكمات في أصول الإيمان والإسلام- أن يكون غرضه من حياته تزكية نفسه، وتكميلها باتباع الحق في كل اعتقاد، والهدى -وهو الصلاح- في كل عمل، وبناؤهما على أساس العلم، دون الظن وما دونه من الخرص والوهم، فالعلم المفيد للحق والمبين للهدى في الدين هو ما كان قطعي الرواية والدلالة من الكتاب والسنة الذي قامت به الجماعة الأولى، وهو الشرع العام الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه، فهو مناط وحدتهم، ورابطة جامعتهم، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به في الاعتقاد، وهو متروك للاجتهاد في الأعمال، اجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية، واجتهاد أولي الأمر في القضاء والإدارة والسياسة، مع تقييدهم فيه بالشورى في استبانة العدل والمساواة والمصالح العامة، كما فصلناه من قبل في مواضعه...
والذي أريد أن أذكر به كل مسلم هنا أنه لا يوجد الآن في الأرض دين متبع، ولا قانون دولي منفذ، ولا نظام حزبي ولا جماعي ملتزم، يفرض على الناس الحق والهدى فرضا دينيا، والاعتماد في استبانتهما على العلم الصحيح، وحصر الاجتهاد والترجيح فيما سواهما، والاعتماد فيه على الوجدان في الشخصيات، والشورى في المصالح العامة، ولن يصلح حال البشر الفردي ولا الاجتماعي والدولي إلا بهذه الأصول التي فرضها الإسلام، وجعلها دينا يدان الله به ليس لأحد تجاوزه، وقد عجزت علوم البشر على اتساعها، وعقولهم على ارتقائها، عن الاستغناء بغيرها، فهم كلما ازدادوا علما يزدادون باطلا وضلالا وبغيا، خلافا لدعاة حضارتهم الكاذبين.
قال شيخ فلاسفة الأخلاق وعلم الاجتماع في هذا القرن -وهو هربرت سبنسر الإنكليزي- لحكيم الإسلام شيخنا الأستاذ الإمام: إن فكرة الحق قد زالت من عقول أمم أوربة البتة، فلا يعرفون حقا إلا للقوة، وإن الأفكار المادية قد أفسدت أخلاقهم، وإنه لا يرى من سبيل إلى علاجهم، وإنه لا يزال بعضهم يختبط ببعض ولعله ذكر الحرب ليتبين أيهم الأقوى ليسود العالم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي أن أكثرهم غلبت عليهم خيالات وأوهام شاعت في جمعهم وانتشرت بينهم واتبعوها جميعا، فالأفكار الفاسدة الضالة تنبعث من بعض الجماعة وتكثر فيها وتشيع في آحادها فتصير فكرا عاما مضللا، وعلى العقلاء أن يصدوا هذه الأفكار الباطلة في أول نشوئها حتى لا تصير هي الغالبة، وبعض المفسرين يقول: إن الأكثر يراد به الجميع، ونحن نقول على هذا المعنى...
الناس صنفان أحدهما: له عقل مستقيم يدرك، والثاني: غلبت وسيطرت عليه الخيالات، فأما الذي آتاه الله تعالى عقلا يدرك فإنه يفكر في خلق السموات والأرض وما بينهما ويأخذ دليلا على وجود خالقهما من الأثر وقوة المؤثر، ثم يجيء الرسل فيهتدي بهديهم ويتبع ما يدعون إليه، وهو الذي ينطبق عليه الوصف القرآني الكريم.
{ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه 50)، فالهداية ثمرة العلم بالخلق. والصنف الثاني يقع في أخيلة وهمية تسيطر عليه فلا يأخذ الهداية من الخلق والتكوين، بل تسيطر عليه الأوهام؛ فيتوهم في حجر قوة، ويتوهم في شخص ربوبية، ولو نادى ليلا نهارا بأنه عبد من عباد الله لا يستنكف عن عبادة الله ولا يستكبر، وهؤلاء يظنون القوة في غير القوى، والقدرة في عاجز، وتكون عقولهم دائما حائرة مضطربة، ولا يكون منهم اعتقاد ولا يقين قط وكلها ظنون يتصورونها اعتقادا، ولسان حالهم يقول: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} (الجاثية 32).
هذا بيان لعلمهم الذي يتجاوز الظن ولا يزيد عليه، ويخيل لهم أنهم يعتقدون ثم يتعصبون له ويعاندون أهل الحق به.
وقد بين سبحانه وتعالى أن الاعتقاد لا يبنى على ظن بل يجب أن يكون على يقين، ولذا قال تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} أي لا يغني بدل الحق، {من} هنا بمعنى "بدل "فالحق وهو الأمر الثابت الذي لا ريب فيه لا يطلب بأدلة ظنية بل لا يطلب إلا ببينات قاطعة، فمعنى {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} أن الظن لا يغني شيئا بدل الأدلة الحق القطعية.
هذه الآية الكريمة تؤكد حقيقتين ثابتتين:
أولهما: أن ما ينتحله أهل الكتاب والمشركون- بشكل عام- والوثنيون مبني على أوهام أوجدت ظنونا جعلوا منها عقائد تعقبوا لها وكأنها حقائق لها براهين أذعنوا لها فما ظنوا إلا ظنا.
ثانيهما: أن التعصب قد يبنى على أوهام وظنون بل إنه سيطرة أوهام وضعف في النفوس وليس بإيمان صادق.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {إن الله عليم بما يفعلون}، وفي هذا تأكيد لعلم الله بهم في ظنونهم وأعمالهم وحركات نفوسهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} في ما يعتقدونه من عقائد، أو يعبدونه من آلهةٍ، فلم يرتكزوا على أساس العلم المنطلق من البداهة الفطرية، أو من البرهان العلمي، بل ارتكزوا على أساس الشك والحدس والتخمين. وهو ما توحيه كلمة الظن التي تواجه مسألة العلم، لتشمل كل ما هو غير علمي، مما لا يمكن الاعتماد عليه في العقيدة والعمل، {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} لأنه لا يكشف عن الحقيقة من مواقع الفطرة والوجدان، أو من مواقع الحجة المنتهية إلى الوجدان. وهذا هو الخط الذي يريد الإسلام للإنسان أن يسير عليه في تحصيل القناعة، أو تحقيق الانتماء، فلا يجوز له أن يعتمد على ما لا يجوز الاستناد إليه مما لا يرتكز على حجة ولا ينطلق من قاعدةٍ يقينيّة، بل لا بدّ له من مواجهة الفكرة المتبنَّاة من الإجابة على كل علامة استفهامٍ مطروحةٍ أمامه، بما يطمئن إليه العقل، وتستقر به النفس، ويعذر فيه العقلاء، فإذا لم يحصل ذلك وبقيت الاحتمالات المضادة مفتوحةً عنده، كان الموقف الطبيعي لديه أن يأخذ جانب الحذر ليلاحق الآفاق المتنوعة التي تقف به عند خطّ اليقين. ومن خلال ذلك، نفهم جيّداً كيف يريد الإسلام للإنسان أن يحترم الحقيقة في الحياة، باحترام مسؤولية الفكر لديه، والتأكيد على أدواته وأساليبه في الوصول إلى النتائج الإيجابيّة في العقيدة، لأن ذلك هو الذي يعطي للناس جانب العذر عند الله {إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.