اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ} (36)

قوله : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً } الآية .

أي : يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة ، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة ، " ظَنّاً " : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ . وأراد بالأكثر ، جميع من يقول ذلك .

وقيل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً ؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم ، بل سمعُوه من أسلافهم ، وهذا القول أولى ؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ .

قوله : " لاَ يُغْنِي " : خبرُ " إنَّ " ، و " شيئاً " منصوبٌ على المصدر ، أي : شيئاً من الإغناء ، و " منَ الحقِّ " نصبٌ على الحالِ من " شَيْئاً " ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له ، ويجُوزُ أن تكون " مِن " بمعنى " بدل " ، أي : لا يُغْنِي بدل الحقِّ ، وقرأ الجمهور : " يَفْعلُون " على الغيبة ، وقرأ عبد الله{[18457]} : " تَفْعَلون " خطاباً ، وهو التفاتٌ بليغٌ ، ومعنى الآية : إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً ، وقيل : لا يقوم مقام العلم .

فصل

تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية ، فقالوا : العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية ، وأجيبوا : بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس ، دليلٌ قاطعٌ ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً ، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً ، فأجابوا : بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى - ، لكان ترك العمل به كُفْراً ؛ لقوله - تعالى - : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] ولمَّا لمْ يكُن كذلك ، بطل العمل به ، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة ، فقالوا : الحكم المستفاد من القياس : إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى - ، أو يظن ، أو لا يعلم ولا يظن .

والأرض باطل ، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً ؛ لقوله - تعالى - : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] ، وبالاتِّفاق ليس كذلك .

والثاني : باطلٌ ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز ؛ لقوله - تعالى - : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } .

والثالث : باطلٌ ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك الحكم معلوماً ، ولا مظنوناً ، كان مجرد التَّشهي ، فكان باطلاً ؛ لقوله - تعالى - : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات } [ مريم : 59 ] .

وأجاب مثبتُو القياس : بأنَّ حاصل هذا الدَّليل ، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات ، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن ، فإذا دلَّت العمومات ، على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه ، كان مَتْرُوكاً .

دلَّت هذه الآيةُ : على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول ، ولم يكُن قاطعاً ؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً .

فإن قيل : فقول أهل السُّنَّة : أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ - ، يمنع من القطع ، فوجب أن يلزمَهُم الكفر .

فالجواب من وجوه :

الأول : مذهب الشافعي : أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ ، والإقرارِ ، والعمل ، والشَّك إنَّما هو ي هذه الأعمال ، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى - ؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة ، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة .

الثاني : أنَّ الغرضَ من قوله : إن شاء اللهُ ، بقاء الإيمان عند الخاتمة .

الثالث : الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها .


[18457]:ينظر: الكشاف 2/346، المحرر الوجيز 3/119، البحر المحيط 5/158، الدر المصون 4/32.