روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ} (36)

{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظناً واهياً مستند إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يلتفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلاً عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها ، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم في أثنائه اتباع لفراد من أفراد العلم والتفات إليه . وتنكير { ظَنّا } للنوعية ، وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقيقة التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعناداف ، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معانداً ، ولعل النيابة حينئذٍ عن الجميع باعتبار هذا البعض ، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظناً ولا يتركونه أبداً ، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان ، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة ، وقيل : المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم ، وقيل : المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن ، والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] وفي قوله

: قليل التشكي في المصيبات حافظ . . . من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة ، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضاً ، ومن الناس من جعل ضمير { أَكْثَرُهُمْ } للناس وحينئذٍ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة { إَنَّ الظن } مطلقاً { لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع ، والجار متعلق بما قبله { *وشيئاً } نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما ، ويجوز أن يكون مفعولاً به والجار والمجرور في موضع الحال منه ، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه ، وفيه دليل لمن قال : إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح ، وإنما لم يؤخذ عاماً للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه .

{ شَيْئًا إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجاً أولياً . وقرىء { تَفْعَلُونَ } بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد .

ومن باب الإشارة :{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } [ يونس : 36 ] ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل ، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال ، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الانوق :

لقد طفت في تلك المعاهد كلها . . . وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر . . . على ذقن أو قارعاً سن نادم

فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم أولاً فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا