قوله تعالى : { قالوا سبحانك } تنزيهاً لك ، { أنت ولينا من دونهم } أي : نحن نتولاك ولا نتولاهم ، { بل كانوا يعبدون الجن } يعني : الشياطين ، فإن قيل لهم كانوا يعبدون الملائكة فكيف وجه قوله : { يعبدون الجن } قيل : أراد الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة ، فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة ، فقوله { يعبدون } أي : يطيعون الجن ، { أكثرهم بهم مؤمنون } يعني : مصدقون للشياطين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهََؤُلاَءِ إِيّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكْثَرُهُم بِهِم مّؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء الكفار بالله جميعا ، ثم نقول للملائكة : أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا ؟ فتتبرأ منهم الملائكة قَالُوا سُبْحَانَكَ ربنا ، تنزيها لك وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء من الشركاء والأنداد أَنْتَ وَلِيّنَا مِنْ دونِهِمْ لا نتخذ وليا دونك بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثُمّ نَقُولُ للْمَلاَئِكة أهَؤُلاءِ إيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ استفهام ، كقوله لعيسى : أءَنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ ؟
وقوله : أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ يقول : أكثرهم بالجنّ مصدّقون ، يزعمون أنهم بنات الله ، تعالى الله عما يقولون عُلُوّا كبيرا .
{ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم } أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم ، كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم : { بل كانوا يعبدون الجن } أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله . وقيل كانوا يتمثلون لهم ويخيلون إليهم أنهم الملائكة فيعبدونهم . { أكثرهم بهم مؤمنون } الضمير الأول للإنس أو للمشركين ، والأكثر بمعنى الكل والثاني ل { الجن } .
وإذا قال الله تعالى للملائكة هذه المقالة قالت الملائكة { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما فعل هؤلاء الكفرة ، ثم برؤوا أنفسهم بقولهم { أنت ولينا من دونهم } يريدون البراءة من أن يكون لهم رضى أو علم أو مشاركة في أن يعبدهم البشر ، ثم قرروا البشر إنما عبدت الجن برضى الجن وبإغوائها للبشر فلم تنف الملائكة عبادة البشر . إياها وإنما قررت أنها لم تكن لها في ذلك مشاركة ، ثم ذنبت الجن ، وعبادة البشر للجن هي فيما نعرفه نحن بطاعتهم إياهم وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة ، وقد يجوز إن كان في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ف {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم} ونحن منهم براء،إضمار، ما أمرنا بعبادتنا.
{بل كانوا يعبدون الجن} بل أطاعوا الشيطان في عبادتهم.
{أكثرهم بهم مؤمنون} مصدقين بالشيطان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء الكفار بالله جميعا، ثم نقول للملائكة: أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا؟ فتتبرأ منهم الملائكة "قَالُوا سُبْحَانَكَ "ربنا، تنزيها لك وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء من الشركاء والأنداد، "أَنْتَ وَلِيّنَا مِنْ دونِهِمْ" لا نتخذ وليا دونك، "بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ"...
وقوله: "أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ" يقول: أكثرهم بالجنّ مصدّقون، يزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون عُلُوّا كبيرا.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أنت الذي توالينا بالطاعة دونهم.
{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أطاعوا الجن في عبادتنا، وصاروا بطاعتهم عابدين لهم دوننا.
{أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} أي جميعهم بهم مؤمنون، وهذا خروج عن الظاهر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والموالاة: خلاف المعاداة، وهي مفاعلة من الولي وهو القرب، كما أنّ المعاداة من العدواء وهي البعد، والولي: يقع على الموالي والموالى جميعاً، والمعنى أنت الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار: براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم.
{أكثرهم بهم مؤمنون} لو قال قائل جميعهم كانوا تابعين للشياطين، فما وجه قوله: {أكثرهم بهم مؤمنون} فإنه ينبئ أن بعضهم لم يؤمن بهم ولم يطع لهم؟ نقول الجواب عنه من وجهين؛
أحدهما: أن الملائكة احترزوا عن دعوى الإحاطة بهم، فقالوا أكثرهم لأن الذين رأوهم واطلعوا على أحوالهم كانوا يعبدون الجن ويؤمنون بهم، ولعل في الوجود من لم يطلع الله الملائكة عليه من الكفار.
الثاني: هو أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن فقالوا: {بل كانوا يعبدون الجن} لاطلاعهم على أعمالهم وقالوا: {أكثرهم بهم مؤمنون} عند عمل القلب لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب فإن القلب لا اطلاع عليه إلا لله، كما قال تعالى: {إنه عليم بذات الصدور}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سبحانك} أي ننزهك تنزيهاً يليق بجلالك عن أن يستحق أحد غيرك أن يعبد. ولما كانوا كارهين جداً لعبادتهم، وكانت فائدة العبادة الوصلة بين العابد والمعبود قالوا: {أنت ولينا} أي معبودنا الذي لا وصلة بيننا وبين أحد إلا بأمره.
{من دونهم} أي من أقرب منزلة لك من منازلهم منا، فأنت أقرب شيء إلينا في كل معاني الولاية من العلم والقدرة وغيرهما، فكيف نترك الأقرب والأقوى ونتولى الأبعد العاجز، ليس بيننا وبينهم من ولاية بل عداوة، وكذا كل من تقرب إلى شخص بمعصية الله يقسي الله قلبه عليه، ويبغضه فيه فيجافيه ويعاديه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فنحن مفتقرون إلى ولايتك، مضطرون إليها، فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا؟ أم كيف نصلح لأن نتخذ من دونك أولياء وشركاء؟"... لأن العبادة الطاعة، كما قال تعالى مخاطبا لكل من اتخذ معه آلهة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}...
{أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} أي: مصدقون للجن، منقادون لهم، لأن الإيمان هو: التصديق الموجب للانقياد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والعبادةُ ولاية بين العابد والمعبود، ورضَى المعبود بعبادة عابده إياه ولايةٌ بين المعبود وعابده، فقول الملائكة {سبحانك} تبرؤ من الرضى بأن يعبدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله، فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإِلهية، لأن العابد لا يكون معبوداً.