البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ} (41)

ولما أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته من كل سوء ، كما قال عيس عليه السلام : { سبحانك } ، ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة ، أي { أنت ولينا } ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم .

وفي قولهم : { بل كانوا يعبدون الجن } ، إشعار لهم بما عبدوه ، وإن لم يصرح به .

لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذ لم يكن راضياً بعبادة عابده مريداً لها ، لم يكن ذلك العابد عابداً له حقيقة ، فلذلك قالوا : { بل كانوا يعبدون الجن } ، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة ، فلذلك قالوا : { بل كانوا يعبدون الجن } ، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال .

وقيل : صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها .

وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها .

وقال ابن عطية : لم تنف الملائكة عبادة البشر اياها ، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة .

وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم ، وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة .

وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت ، في سورة الأنعام وغيرها . انتهى .

وإذا هم قد عبدوا الجن ، فما وجه قولهم : أكثرهم مؤمنون ، ولم يقولوا جميعهم ، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن ؟ والجواب أنهم لم يدعوا الإحاطة ، إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع الملائكة عليهم ، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب ، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم ، لأن ذلك لله تعالى .

ومعنى { مؤمنون } : مصدقون أنهم معبودوهم ، وقيل : مصدقون أنهم بنات الله ، وأنهم ملائكة ، { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع ، فلا يرد عليه شيء ، لكنه ليس موضوع اللغة .