المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

36- إن عدة شهور السنة القمرية اثنا عشر شهراً ، في حكم الله وتقديره ، وفيما بَيَّنه في كتبه منذ بدء العالم . ومن هذه الاثني عشر شهراً أربعة أشهر يحرم القتال فيها ، وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وهذا التحريم للأشهر الأربعة المذكورة هو دين الله المستقيم ، الذي لا تبديل فيه ولا تغيير . فلا تظلموا في هذه الأشهر أنفسكم باستحلال القتال أو امتناعكم عنه إذا أغار عليكم الأعداء فيها ، وقاتلوا - أيها المؤمنون - جماعة المشركين دون استثناء أحد منهم ، كما يقاتلونكم معادين لكم جميعاً ، وكونوا على يقين من أن الله ناصر للذين يخافون ، فيلتزمون أوامره ويجتنبون نواهيه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

قوله تعالى : { إن عدة الشهور } ، أي : عدد الشهور ، { عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } ، وهي المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأول وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة .

وقوله تعالى : { في كتاب الله } أي : في حكم الله . وقيل : في اللوح المحفوظ . قرأ أبو جعفر : اثنا عشر ، وتسعة عشر ، وأحد عشر ، بسكون الشين ، وقرأ العامة بفتحها ، { يوم خلق السماوات والأرض } ، والمراد منه : الشهور الهلالية ، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم ، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلية . والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعا وخمسين يوما ، { منها أربعة حرم } ، من الشهور أربعة حرم وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، واحد فرد وثلاثة سرد ، { ذلك الدين القيم } ، أي : الحساب المستقيم . { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ، قيل : قوله { فيهن } ينصرف إلى جميع شهور السنة ، أي : فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة . وقيل : { فيهن } أي : في الأشهر الحرم . قال قتادة : العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم ، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما . وقال ابن عباس : فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن . قال محمد بن إسحاق بن يسار : لا تجعلوا حلالها حراما ، ولا حرامها حلالا ، كفعل أهل الشرك وهو النسيء . وقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } ، جميعا عامة ، { كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } ، واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم . فقال قوم : كان كبيرا ثم نسخ بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } كأنه يقول فيهن وفي غيرهن . وهو قول قتادة ، وعطاء الخرساني ، والزهري وسفيان الثوري ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقال آخرون : إنه غير منسوخ : قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح : ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَات وَالأرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ } .

يقول تعالى ذكره : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن في قضائه الذي قضى ، يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ يقول : هذه الشهور الاثنا عشر ، منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن وتحرّمهن وتحرّم القتال فيهنّ ، حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه لم يهجه . وهن : رجب مضر وثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم . وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال : ثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق ، فقال : «يا أيّها النّاسُ ، إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، أوّلَهُنّ رَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ وَذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجّةِ وَالمُحَرّمُ » .

حدثنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا في كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَق السّمَوَاتِ والأرْضَ ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياتٌ وَرَجَبُ مُضْرَ بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع ، فقال : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، السّنَةُ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِياثٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سليمان التيمي ، قال : ثني رجل بالبحرين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا ثَلاثَةٌ مُتَوَالِياتٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، قوله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ إن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، والمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ الّذِي بينَ جُمادى وَشَعْبَانَ » .

حدثنا قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منى : «ألاَ إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ ، وإنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثُنَا عَشَرَ شَهْرا ، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القَعْدَةِ ، وَذُو الحِجّةِ ، وَالمُحَرّمُ ، وَرَجَبُ مُضْرَ الّذِي بينَ جُمادَى وشَعْبَانَ » .

وهو قول عامة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ أما أربعة حرم : فذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب . وأما كتاب الله : فالذي عنده .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا قال : يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ قال : يذكر بها شأن النسيء .

وأما قوله : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ . فإن معناه : هذا الذي أخبرتكم به ، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، وأن منها أربعة حرما : هو الدين المستقيم ، كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ يقول : المستقيم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله : ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ قال : الأمر القيم يقول : قال تعالى : واعلموا أيها الناس أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن ، وأن من هذه الاثني عشر شهرا أربعة أشهر حرما ذلك دين الله المستقيم ، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة وتحريمه ما يحرمه منها .

وأما قوله : فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنفُسَكُمْ فإن معناه : فلا تعصوا الله فيها ، ولا تحلوا فيهنّ ما حرّم الله عليكم ، فتكسبوا أنفسكم ما لا قبل لها به من سخط الله وعقابه . كما :

حدثني يونس ، قال : قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : الظلم : العمل بمعاصي الله والترك لطاعته .

ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه الهاء والنون في قوله : فيهنّ ، فقال بعضهم : عاد ذلك على الاثني عشر شهرا ، وقال : معناه : فلا تظلموا في الأشهر كلها أنفسكم . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضِ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ في كلهن . ثم خص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ قال : في الشهور كلها .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم ، والهاء والنون عائدة على الأشهر الأربعة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أما قوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما شاء وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا تظلموا في تصييركم حرام الأشهر الأربعة حلالاً وحلاها حراما أنفسكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرا . . . إلى قوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ : أي لا تجعلوا حرامها حلالاً ، ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا . . . الآية .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : ظلم أنفسكم : أن لا تحرّموهن كحرمتهن .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز . قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن عليّ : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ قال : ظلم أنفسكم أن لا تحرّموهن كحرمتهن .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد ، بنحوه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظّم حرمتها .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويله لقوله : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ فأخرج الكناية عنه مخرج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة إذا كَنَتْ عنه : فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون ، ولأربعة أيام بقين ، وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين ، قالت : فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت ، ولأربع عشرة مضت . فكان في قوله حلّ ثناؤه : فلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ وإخراجه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فِيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة الدليل الواضح على أن الهاء والنون من ذكر الأشهر الأربعة دون الاثني العشر لأن ذلك لو كان كناية عن الاثني عشر شهرا لكان : فلا تظلموا فيها أنفسكم .

فإن قال قائل : فما أنكرت أن يكون ذلك كناية عن الاثني عشر ، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب ، فقد علمت أن المعروف من كلامها إخراج كناية ما بين الثلاث إلى العشر بالهاء دون النون ، وقد قال الشاعر :

أصْبَحْنَ فِي قُرْحَ وفي دَارَاتِها *** سَبْعَ لَيالٍ غَيْرَ مَعْلُوفاتِها

ولم يقل : معلوفاتهن ، وذلك كناية عن السبع ؟ قيل : إن ذلك وإن كان جائزا فليس الأصح الأعرف في كلامها ، وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأعرف أولى من توجيهه إلى الأنكر .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فقد يجب أن يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهنّ من سائر شهور السنة ؟ قيل : ليس ذلك كذلك ، بل ذلك حرام علينا في كل وقت وزمان ، ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على سائر شهور السنة ، فخصّ الذنب فيهنّ بالتعظيم كما خصهنّ بالتشريف ، وذلك نظير قوله : حافِظُوا على الصّلَوَاتِ والصّلاةِ الوُسْطَى ولا شكّ أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله : حافِظُوا على الصّلَوَاتِ ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى ، ولكنه تعالى ذكره زادها تعظيما وعلى المحافظة عليها توكيدا وفي تضييعها تشديدا ، فكذلك ذلك في قوله : مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ .

وأما قوله : وَقاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً فإنه يقول جلّ ثناؤه : وقاتلوا المشركين بالله أيها المؤمنون جميعا غير مختلفين ، مؤتلفين غير مفترقين ، كما يقاتلكم المشركون جميعا مجتمعين غير متفرقين . كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافّةً أما كافة فجميع وأمركم مجتمع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً يقول : جميعا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً : أي جميعا .

والكافّة في كلّ حال على صورة واحدة لا تذكر ولا تجمع ، لأنها وإن كانت بلفظ فاعلة فإنها في معنى المصدر كالعافية والعاقبة ، ولا تدخل العرب فيها الألف واللام لكونها آخر الكلام مع الذي فيها من معنى المصدر ، كما لم يدخلوها إذا قالوا : قاموا معا وقاموا جميعا .

وأما قوله : واعْلَمُوا أنّ اللّهَ مَعَ المُتّقِينَ فإن معناه : واعلموا أيها المؤمنون بالله أنكم إن قاتلتم المشركين كافّة ، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم ولم تخالفوا أمره فتعصوه ، كان الله معكم على عدوّكم وعدُوه من المشركين ومن كان الله معه لم يغلبه شيء ، لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه .