{ وأوحينا إلى موسى وأخيه } ، هارون ، { أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا } يقال : تبوأ فلان لنفسه بيتاً ومضجعاً إذا اتخذه ، وبوأته أنا إذا اتخذته له ، { واجعلوا بيوتكم قبلةً } ، قال أكثر المفسرين : كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم ، وكانت ظاهرة ، فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون ، هذا قول إبراهيم وعكرمة عن ابن عباس . وقال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا بأن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة ، يصلون فيها سراً . معناه : واجعلوا بيوتكم إلى القبلة . وروى ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه . { وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين } ، يا محمد .
وبعد هذا الدعاء المخلص ، وجه الله - تعالى - نبيه موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال - تعالى - { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً . . }
وقوله { تبوءا } من التبؤ وهو اتخاذ المباءة أى المنزل ، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن .
يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه ، وهيأته له .
والمعنى : وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون في طغيانه وفى إنزال العذاب بالمؤمنين - أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم في مصر ، ينزلون بها ، ويستقرون فيها ، ويعتزلون فرعون وجنده ، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .
وقوله { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أى : واجعلوا هذه البيوت التي حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم ، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم في الأماكن المخصصة لذلك .
قال القرطبي : " المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا ، وذلك حين أخافوا فرعون ، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت ، والإِقدام على الصلاة ، والدعاء ، إلى أن ينجز الله وعده ، وهو المراد بقوله { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا } وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن ، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم . . . " .
وقوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أى : داوموا عليها ، وأدوها في أوقاتها بخشوع وإخلاص ، فإن في أدائها بهذه الصورة . وسيلة إلى تفريج الكروب ، وفى الحديث الشريف : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حز به أمر صلى " .
وقوله { وَبَشِّرِ المؤمنين } تذييل قصد به بعث الأمل في نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به .
أى : وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : كيف نوع الخطاب فثنى أولا ، ثم جمع ، ثم وحد آخرا ؟
قلت : " خوطب موسى وهارون - عليه السلام - أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور . ثم خص موسى - عليه السلام - بالبشارة التي هي الغرض تعظيما لها ، وللمبشر بها " .
ولأن بشارة الأمة - كما يقول الآلوسى - وظيفة صاحب الشريعة ، وهى من الأعظم أَسَرُّ وأوقع في النفس .
هذا ، ومن التوجيهات الحكيمة التي نأخذها من هذه الآية الكريمة ، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح ، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان ، إذا لم تنفع معهم النصيحة ، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة ، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة ، وعلى الأخوة الخالصة ، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }
يجوز أن يكون عطفاً على جملة { وقال موسى يا قوم } [ يونس : 84 ] ، ويجوز أن يكون عطفَ قصة على قصة ، أي على مجموع الكلام السابق ، لأن مجموعه قصص هي حكاية أطوار لقصة موسى وقومه .
ووقع الوحي بهذا الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام لأنه من الأعمال الراجعة إلى تدبير أمر الأمة ، فيمكن الاشتراك فيها بين الرسول ومُؤَازره .
والتبَوُّؤ : اتخاذ مكان يسكنه ، وهو تفعل من البَوْء ، أي الرجوع ، كأنّ صاحب المسكن يُكلف نفسه الرجوع إلى محل سَكنه ولو كان تباعد عنه في شؤون اكتسابه بالسير إلى السوق أو الصيد أو الاحتطاب أو قطف الثمار أو نحو ذلك ، وتقدم عند قوله تعالى : { تُبَوّىء المؤمنين مَقاعد للقتال } في [ آل عمران : 121 ] . فمعنى تَبَوّءا لقومكما } اجعلا قومكما متبوئينَ بيوتاً .
وفاعل هذا الفعل في الأصل هو الساكن بالمباءة ، وإنما أسند هنا إلى ضمير موسى وهارون عليهما السلام على طريقة المجاز العقلي ، إذ كانا سبب تَبَوّؤ قومهما للبيوت . والقرينة قوله : { لقومكما } إذ جعل التبوؤ لأجل القوم .
ومعنى تبوؤ البيوت لقومهما أن يأمرا قومهما باتخاذ البيوت على الوصف الذي يأمرانهم به . وإذ قد كان لبني إسرائيل ديار في مصر من قبل ، إذ لا يكونون قاطنين مصر بدون مساكن ، وقد كانوا ساكنين أرض ( جَاسان ) قرب مدينة ( منفيس ) قاعدة المملكة يومئذٍ في جنوب البلاد المصرية ، كما بيناه في سورة البقرة ، لا جرم أن تكون البيوت المأمور بتبوئها غير البيوت التي كانوا ساكنيها .
واضطرب المفسرون في المراد من هذه البيوت وذكروا روايات غير ملائمة لحالة القوم يومئذٍ . فقيل : أريد بالبيوت بيوت العبادة أي مساجد يصلون فيها ، وربما حمل على هذا التفسير من تأوّله وقوعُ قوله : { وأقيموا الصلاة } عقبه . وهذا بعيد لأن الله علم أن بني إسرائيل مفارقون مصر قريباً بإذنه . وقيل : البيوت بيوت السكنى وأمسكوا عن المقصود من هذه البيوت . وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى ، والمناسب أيضاً لإطلاق البيوت ، وكونها بمصر .
فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في ( جاسان ) قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر الخروج : إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أولُ ما سأله موسى من فرعون ، وأن فرعون منعهم من ذلك ، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كلّ ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج ، وقد صار لهم ذلك عيداً بعد خروجهم .
وقوله : { واجعلوا بيوتكم قبلة } أي هذه الخيام أو الأخصاص التي تتخذونها تجعلونها مفتوحة إلى القبلة .
والقِبلة : اسم في العربية لجهة الكعبة . وتلك الجهة هي ما بين المشرق والمغرب لأن قبلة بلاد مصر كقبلة المدينة ما بين المشرق والمغرب وهي الجنوب ، فيجوز أن يكون التعبير عن تلك الجهة بالقبلة في الآية حكاية لتعبير موسى عنها بما يدل على معنى التوجه إلى الجهة التي يصلون إليها ، وهي قبلة إبراهيم ، فيكون أمرُ بني إسرائيل يومئذٍ جارياَ على الملة الحنيفية قبل أن ينسخ بالاستقبال إلى صخرة القدس ويجوز أن يكون موسى قد عبر بما يفيد معنى الجنوب فحكيت عبارته في القرآن باللفظ المرادف له الشائع في التعبير عن الجنوب عند العرب وهو كلمة قبلة .
والحكمة في جعل البيوت إلى القبلة أن الشمس تدخلها من أبوابها في غالب أوقات النهار في جميع الفصول وفي ذلك منافع كثيرة .
والذين فسروا البيوت بأنها بيوت السكنى فسروا قبلة : إما بمعنى متقابلة ، وإما بمعنى اجعلوا بيوتكم محل صلاتكم ، وكلا التفسيرين بعيد عن الاستعمال .
وأما الذين تأولوا البيوت بالمساجد فقد فسروا القبلة بأنها قبلة الصلاة ، أي جهة الكعبة .
وعن ابن عباس : كانت الكعبة قبلة موسى . وعن الحسن : كانت الكعبة قبلة كل الأنبياء . وهذا التفسير يلائم تركيب { اجعلوا بيوتكم قبلة } لأن التركيب اقتضى أن المجعول قبلة هو البيوت أنفسها لا أن تجعل الصلاة فيها إلى جهة القبلة فإذا افتقدنا التأويلات كلها لا نجدها إلا مفككة متعسفة خلا التفسير الذي عولنا عليه ، وقد اختلفوا فيه فهدانا الله إليه .
وأسند فعل { اجعلوا } إلى ضمير الجماعة لأن ذلك الجعل من عمل موسى وأخيه وقومهما إذ كل أحد مكلف بأن يجعل بيته قبلة .
وأمْرهم بإقامة الصلاة ، أي التي فرضها الله عليهم على لسان موسى ، والتي كانوا يصلونها من قبل مجيء موسى اتباعاً لإبراهيم عليه السلام وأبنائه . والظاهر أن الداعي إلى أمرهم بإقامة الصلاة أن اتخاذ البيوت كان في حالة رحيل فكانت حالتهم مظنة الشغل عن إقامة الصلوات فلذلك أمروا بالمحافظة على إقامة الصلاة في مدة رحلتهم .
وعَطْفُ جملة : { وبشر المؤمنين } على ما قبلها يؤذن بأن ما أمروا به من اتخاذ البيوت أمر بحالة مشعرة بترقب أخطار وتخوف فإنهم قالوا : { ربنا لا تجعلنا فتنة } [ يونس : 85 ] فأمر موسى أن يبشرهم بحسن العاقبة ، وأنهم منصورون على عدوهم وناجون منه والمؤمنون هم قوم موسى الذين ذكروا في قوله : { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } [ يونس : 83 ] وفي قوله : { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا } [ يونس : 84 ، 85 ] .