المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

71- وإن ما ينزل بك من قومك قد نزل بمن سبقك من الأنبياء ، واقرأ - أيها الرسول - على الناس ، فيما ينزله عليك ربك من القرآن قصة نوح رسول الله لمَّا أحس كراهية قومه وعداءهم لرسالته ، فقال لهم : يا قوم إن كان وجودي فيكم لتبليغ الرسالة قد أصبح شديداً عليكم ، فإني مستمر مثابر على دعوتي متوكل على الله في أمري ، فاحزموا أمركم ومعكم شركاؤكم في التدبير ، ولا يكن في عدائكم لي أي خفاء ، ولا تمهلوني بما تريدون لي من سوء ، إن كنتم تقدرون على إيذائي ، فإن ربى يرعاني .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ نوح } ، أي : اقرأ يا محمد على أهل مكة خبر نوح { إذ قال لقومه } ، وهم ولد قابيل ، { يا قوم إن كان كبر عليكم } ، عظم وثقل عليكم ، { مقامي } طول مكثي فيكم { وتذكيري } ، ووعظي إياكم { بآيات الله } ، بحججه وبيناته ، فعزمتم على قتلي وطردي { فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم } ، أي : أحكموا أمركم واعزموا عليه ، { وشركاءكم } ، أي : وادعوا شركاءكم ، أي : آلهتكم ، فاستعينوا بها لتجتمع معكم . وقال الزجاج : معناه : فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، فلما ترك مع انتصب . وقرأ يعقوب : " وشركاؤكم " رفع ، أي : فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤهم .

قوله تعالى : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } ، أي : خفيا مبهما ، مكن قولهم : غم الهلال على الناس ، أي : أشكل عليهم ، { ثم اقضوا إلي } ، أي : أمضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان إذا مات ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه . وقيل : معناه : توجهوا إلي بالقتل والمكروه . وقيل فاقضوا ما أنتم قاضون ، وهذا مثل قول السحرة لفرعون : { فاقض ما أنت قاض } [ طه-72 ] ، أي : اعمل ما أنت عامل .

قوله تعالى : { ولا تنظرون } ، ولا تؤخرون وهذا على طريق التعجيز ، أخبر الله عن نوح أنه كان واثقا بنصر الله تعالى غير خائف من كيد قومه ، علما منه بأنهم وآلهتهم ليس إليهم نفع ولا ضر إلا أن يشاء الله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من الأدلة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين . . بعد كل ذلك تحدثت عن بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فبدأت بجانب من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وكيف أن الله - تعالى - أغرقهم بعد أن تمادوا في ضلالهم ، فقال - سبحانه - :

{ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . . } .

قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - سبحانه - لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفى الجواب عن الشبه والسؤالات ، شرع بعد ذلك في بيان بعض قصص الأنبياء - عليهم السلام - لوجوه :

أحدها : أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من أنواع الملالة ، فإذا انتقل الإِنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر ، انشرح صدره ، ووجد في نفسه رغبة جديدة .

وثانيها : ليكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، أسوة بمن سلف من الأنبياء ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة . . خف ذلك على قلبه ، لأن المصيبة إذا عمت خفت .

وثالثها : أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا في انكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف والوجل في نفوسهم . وحينئذ يقلوعون عن أنواع الإِيذاء والسفاهة . . . " .

ونوح - عليه السلام - : واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهي نسبة إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا .

وكان قومه يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم نوحاً ليدلهم على طريق الرشاد .

وقد تكررت قصته مع قومه في سورة الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح . . بصورة أكثر تفضيلاً .

أما هنا في سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة ، لأن الغرض منها هنا ، إبراز جانب التحدي من نوع لقومه ، بعد أن مكث فيهم زمانا طويلاً ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة غيره .

والمعنى : واتل - يا محمد - على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب ، نبأ نوح - عليه السلام - مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما في هذا النبأ من عظات وعبر . وليعلموا أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين .

والمقصود من هذه التلاوة ، دعوة مشركي مكة وأمثالهم ، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم ، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذي جاءهم به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : { ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ . . } بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا ، ، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته ، ، وتطاول على أتباعه .

أى : قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا : يا قوم إن كان { كَبُرَ عَلَيْكُمْ } .

أى : شق وعظم عليكم { مَّقَامِي } فيكم ووجودي بين أظهركم عمرا طويلا { وَتَذْكِيرِي } إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، ، والتي تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه .

إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت ، وإليه وحده فوضت أمري ولن يصرفني عن الاستمرار في تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم .

وخاطبهم - عليه السلام - بقوله : { ياقوم } استمالة لقلوبهم ، وإشعار لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر .

وجملة { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } جواب الشرط . وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير : إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإني على الله وحده توكلت في تبليغ دعوته لكم .

وقوله : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } معطول على ما قبله .

والفعل { أجمعوا } بقطع الهمزة مأخذو من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضي فيه بدون تردد أو تقاعس .

والمراد بالأمر هنا : المكر والكيد والعداوة وما يشبه بذلك .

والمراد بشركائهم : أصنامهم التي عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة .

والمعنى : أن نوحا - عليه السلام - قد قال قولمه بصراحة ووضوح : يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامي فيكم ، وتذكيري بآيات الله الدالة على وحدانيته فأجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بي ، ثم ادعوا شركاءهم ليساعدوكم في ذلك فإنى ماض في طريقى الذي أمرنى الله به ، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم .

قال الآلوسى : " وقوله { وَشُرَكَآءَكُمْ } منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم . وقيل إنه منصوب بالعطف على قوله { أَمْرَكُمْ } بحذف المضاف أي فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم .

وقرأ نافع : فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جع وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال : جمعت شركائي ، كما يقال جمعت أمرى . . . "

وقوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه .

وكلمة { غُمَّةً } بمعنى الستر والخفاء . يقال : غم على فلان الأمر أى : خفى عليه واستتر .

ومنه الحديث الشريف : " صوموا لرؤيته - أى الهلال - وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من غيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما .

أى : أجمعوا ما تريدون جمعه لي من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم ، الذي أجمعتم على تنفيذه فيه شيء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذي يجعلكم مترددين في المضي فيه أو متقاعسين عن مجاهرتي بما تريدون فعله معى .

ومنهم من يرى أن كلمة { غُمَّةً } هنا بمعى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى : ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامى فيكم وتذكيرى إياكم بآيات الله .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذيبن الوجهين فقال : " فإن قلت : ما معنى الأمرين : أمرهم الذي يجمعونه وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة ؟

قلت : أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعني : فاجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه ، وابذلوا وسعكم في كيدي .

وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا .

وأما الثانى ففيه وجهان : أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم ، المكروهة عندهم . يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة عليكم . وحالكم عليكم غمة . أى : غما وهما . والغم والغمة كالكرب والكربة .

وثانيهما : أن يراد به ما أريد بالأمر الأول . والغمة السترة من غمة إذا ستره ، وفى الحديث " لا غمة في فرائض الله " أى لا تستر ولكن يجاهر بها .

يعنى : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم . ولكن مكشوفا مشهورا تجاهرونني به " .

وقوله : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } زيادة في تحديهم وإثارتهم .

والقضاء هنا بمعنى الأداء ، من قولهم : قضى المدين للدائن دينه ، إذا أداه إليه ، وقضى فلان الصلاة . أى أداها بعد مضي وقتها .

أى : ثم أدوا إلى ذلك الامر الذي تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال .

ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم ، أى : ثم احكموا على بما تريدون من أحكام ، ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها ، بل نفذوها على في الحال .

فأنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا - عليه السلام - كان في نهاية الشجاعة في مخاطبته لقومه ، بعد أن مكث فيهم مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده .

فهو - أولا - يصارحهم بأنه ماض في طريقه الذي أمره الله بالمضي فيه ، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق ، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده .

وهو - ثانيا - يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه .

وهو - ثالثا - يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء ، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد ، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا .

وهو - رابعا - يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار ، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم .

وهكذا نرى نوحا - عليه السلام - يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا . حتى إنه ليغريهم بنفسه ، ويفتح لهم الطريق لإِيذائه وإهلاكه - إن استطاعوا ذلك - .

وما لجأ - عليه السلام - إلى هذا التحدي الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله - تعالى - الذي تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوا إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره .

وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة في كل زمان تلك المواقف المشرفة لرسل الله - عليهم الصلاة والسلام - لكي يقتدوا بهم في شجاعتهم ، وفى اعتمادهم على الله وحده ، وفى ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته ، واشتد جبروته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ فَأَجۡمِعُوٓاْ أَمۡرَكُمۡ وَشُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُنۡ أَمۡرُكُمۡ عَلَيۡكُمۡ غُمَّةٗ ثُمَّ ٱقۡضُوٓاْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ} (71)

من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم ، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب ، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم ، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج ؛ فإن نوحاً عليه السلام مع قومه مَثَل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره ، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلاً ثم يؤخذون أخذة رابية ، كما متع قوم نوح زمناً طويلاً ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا ، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقياً بالوجل والذعر في قلوبهم ، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء ، والصالحين من أقوامهم ، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبئ عن ذلك قولهُ في نهاية هذه القصص { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] الآيات . وقوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] الآيات .

وبهذا يظهر حسن موقع ( إذْ ) من قوله : { إذ قال لقومه يا قوم } إلى آخره ، فإن تقييد النبأ بزمن قوله : { لقومه } إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة ، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم ، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءَهم زمناً طويلاً فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه ، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق .

و { إذا } اسم للزمن الماضي . وهو هنا بدل اشتمال من { نبأ } أو من { نوح } . وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات } [ يونس : 13 ] .

وضمير { عليهم } عائد إلى { الذين يفترون على الله الكذب } [ يونس : 69 ] .

والتلاوة : القراءة . وتقدمت في سورة الأنفال .

والنبأ : الخبر . وتقدم في قوله : { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة [ الأنعام : 34 ] .

والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران .

وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله : { إذ قَال لقومه } إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به ، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جَد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم ، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه

{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] ، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [ الأعراف : 74 ]

وظرف { إذ } وما أضيف إليه في موضع الحال من { نبأ نوح } .

وافتتاح خطاب نوح قومَه ب { يا قوم } إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم ، لأن النداء طلب الإقبال . ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازاً في طلب الإقبال المجازي ، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله .

واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخيرَ لهم ، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيراً . وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم .

ومعنى : { إن كان كبُر عليكم مقامي } شق عليكم وأحرجكم .

والكبَر : وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه ، ويستعار الكبَر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه ، فقد يكون مدحاً كقوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 45 ] ، ويكون ذماً كقوله : { كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] ، ويستعار الكبَر للمشقة والحرج ، كقوله تعالى : { كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] وقوله : { وإن كان كَبُر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] وكذلك هنا .

والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام . وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى : { ولمَن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ، وقوله : { قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مَقاماً } [ مريم : 73 ] أي خير حالة وشأناً . وهو استعمال من قبيل الكناية ، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته ، وفيهما مظاهر أحواله .

وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله ، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه ، فعطفه من عطف الخاص على العام . فمعنى : { كَبُر عليكم مقامي وتذكيري } سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله .

وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعاً مُرّ المَذاق من نفوسهم ، شديد الإيلام لقلوبهم ، لما في منازعة الحق نفوسهم من صَولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها ، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم ، وتشمئز منها نفوسهم ، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم . وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله .

والباء في { بآيات الله } لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني ، والمفعولُ الأول محذوف ، والتقدير : تذكيري إياكم .

و{ آيات الله } مفعول ثان للتذكير .

يقال : ذكرته أمراً نسيه ، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، وقول مسور بن زيادةَ الحارثي :

أذَكَّر بالبقيا على من أصابني *** وبقياي أني جاهد غير مؤتلي

ولذلك قالوا في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله .

وآيات الله : دلائل فضله عليهم ، ودلائل وحدانيته ، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل ، فكان يذكرهم بها ، وذلك يُبرمهم ويحرجهم .

وجملة : { فعلى الله توكلت } جواب شرط { إن كان كبُر عليكم مقامي } باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله ، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم ، وهم في كثرة ومنعَة وهو في قلة وضعف ، لا يصُده عن استمرار الدعوة ، وأنه وإن كان بينهم وحيداً فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله . ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله : { فعلى الله توكلت } أي لا على غيره .

والتوكل : التعويل على من يدبر أمره . وقد مر عند قوله : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .

والفاء في { فأجمعوا أمركم } للتفريع على جملة { على الله توكلت } فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب ، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : إن كان كبُر عليكم مقامي الخ ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت ، كما قال هود لقومه { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم } [ هود : 55 ، 56 ] .

وإجماع الأمر : العزم على الفعل بعد التردد بين فِعله وفعل ضده . وهوَ مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق ، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جَمَع ما كان متفرقاً . فالهمزة فيه للجعل ، أي جعلَ أمره جمعاً بعد أن كان متفرقاً .

ويقولون : جاؤوا وأمرهم جميع ، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف .

والأمر : هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله .

و { شركاءكم } منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه . والواو بمعنى ( مع ) أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم .

وقرأ يعقوب { وشركاؤكم } مرفوعاً عطفاً على ضمير { فأجمعوا } ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول . والمعنى : وليجْمَع شركاؤكم أمرَهم .

وصيغة الأمر في قوله : { فأجمعوا } مستعملة في التسوية ، أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته . وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشاً من القوم ، وذلك تهكم بهم ، كما في قوله تعالى : { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } [ الأعراف : 195 ] .

وعطْف جملة : { ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة } ب { ثم } الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يُهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم .

وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأنّ شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباساً عليهم ، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك .

والغمة : اسم مصدر للغم . وهو الستر . والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي ، وهو انبهام الحال ، وعدم تبين السداد فيه ، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل :

لعمرك ما أمري علي بغمة *** نهاري ولا ليلي علي بسرمد

وإظهار لفظ الأمر في قوله : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } مع أنه عين الذي في قوله : { فأجمعوا أمركم } لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه .

و ( ثم ) في قوله : { ثم اقضوا إلي } للتراخي في الرتبة ، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاهُ أقوى من تدبير ذلك ، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه ، فعطف ب ( ثم ) التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل .

و { اقضُوا } أمر من القضاء ، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل ، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي . ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم ، وهو قريب من الوجه الأول ، أي أنفذوا حكمكم .

وعدي ب ( إلى ) دون ( على ) لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصاً على معنى التنفيذ بالفعل ، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو ، ويكون بالفعل ، فهو قضاء بتنفيذ . ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي .

وقوله : { ولا تُنظرون } تأكيد المدلول التضمين المشار إليه بحرف ( إلى ) . والإنظار التأخير ، وحذفت ياء المتكلم من { تنظرون } للتخفيف ، وهو حذف كثير في فصيح الكلام ، وبقاء نون الوقاية مشعر بها .