قوله تعالى : { وآت ذا القربى حقه } ، يعني صلة الرحم ، وأراد به : قرابة الإنسان ، وعليه الأكثرون . عن علي بن الحسين : أراد به قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم . { والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً } أي : لا تنفق مالك في المعصية . وقال مجاهد : لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً ، ولو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً . وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال : إنفاق المال في غير حقه . قال شعبة : كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة ، فأتى على باب دار بني بجص وآجر ، فقال : هذا التبذير . وفي قول عبد الله : إنفاق المال من غير حقه .
قال أبو حيان فى البحر : " لما أمر الله - تعالى - ببر الوالدين ، أمر بصلة القرابة . قال الحسن : نزلت فى قرابة النبى صلى الله عليه وسلم . والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر . . . } وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم ، وسد الخلة ، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه . قال نحوه : ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم " .
والمراد بذوى القربى : من تربطك بهم صلة القرابة سواء أكانوا من المحارم أم لا .
والمسكين : هو من لا يملك شيئا من المال ، أو يملك ما لا يسد حاجته ، وهذا النوع من الناس فى حاجة إلى العناية والرعاية ، لأنهم فى الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل ، على إراقة ماء وجوههم بالسؤال .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذى يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال الذى لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " .
وابن السبيل : هو المسافر المنقطع عن ماله سمى بذلك - كما يقول الآلوسى - لملازمته السبيل - أى : الطريق - فى السفر . أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته .
وهذا النوع من الناس - أيضا - فى حاجة إلى المساعدة والمعاونة ، حتى يستطيع الوصول إلى بلده .
وفى هذا الامر تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغى أن يكونوا فى التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .
والمعنى : وأعط - أيها العاقل - ذوى قرباك حقوقهم الثابتة لهم من البر ، وصلة الرحم ، والمعاونة ، والزيارة ، وحسن المعاشرة ، والوقوف إلى جانبهم فى السراء والضراء ، ونحو ذلك مما توجبه تعاليم دينك الحنيف .
وأعط - كذلك - المسكين وابن السبيل حقوقهما التى شرعها الله - تعالى - لهما ، من الإِحسان إليهما ، ومعاونتهما على ما يسد حاجتهما .
وقدم - سبحانه - الأقارب على غيرهم ، لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم .
روى الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم ، عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذى الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } نهى عن وضع المال فى غير موضعه الذى شرعه الله - تعالى - مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه فى الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه ، ثم استعير لتضييع المال فى غير وجوهه .
قال صاحب الكشاف : التبذير تفريق المال فيما لا ينبغى ، وإنفاقه على وجه الإِسراف ، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها ، وتبذر أموالها فى الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك فى أشعارها ، فأمر الله - تعالى - بالنفقة فى وجوهها ، مما يقرب منه ويزلف .
وقال ابن كثير : وقوله { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } : لما أمر بالإِنفاق نهى عن الإِسراف فيه ، بل يكون وسطا ، كما قال - تعالى - : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } وقال ابن مسعود : التبذير : الإنفاق فى غير حق . وكذا قال ابن عباس .
وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله فى الحق لم يكن مبذرا . ولو أنفق مُدا فى غير حقه كان تبذيرا .
اختلف المتأولون في «ذي القربى » ، فقال الجمهور : الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم ، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد الأمة ، وألحق في هذه الآية ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه ، قال بنحو هذا الحسن وعكرمة وابن عباس وغيرهم ، وقال علي بن الحسين في هذه : هم قرابة النبي عليه السلام ، أمر النبي عليه السلام بإعطائهم حقوقهم من بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أبين ، ويعضده العطف ب { المسكين وابن السبيل } . { وابن السبيل } هنا يعم الغني والفقير إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا ، «وابن السبيل » في آية الصدقة أخص .
{ وءات ذا القربى حقه والمسكين ابن السبيل }
القرابة كلها متشعبة عن الأبوة فلا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة .
وللقرابة حقّان : حق الصلة ، وحق المواساة . وقد جمعهما جنس الحق في قوله ؛ { حقه } . والحوالة فيه على ما هو معروف وعلى أدلة أخرى .
والخطاب لغير معين مثل قوله : { إما يبلغن عندك الكبر } [ الإسراء : 23 ] .
والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله : { ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين } [ الإسراء : 25 ] الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله : { وآت ذا القربى } تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات ، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع . والجملة معطوفة على جملة { ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] لأنها من جملة ما قضى الله به .
والإيتاء : الإعطاء . وهو حقيقة في إعطاء الأشياء ، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة . ومنه قول النبي : ورجل آتاه الله الحِكمة فهو يقضي بها الحديث .
وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ .
وقد بينت أدلّة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها : من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء ، ومن غير واجبة مثل الإحسان .
وليس لهاته تعلق بحقوق قرابة النبي لأن حقوقهم في المال تقررت بعد الهجرة لما فرضت الزكاة وشرعت المغانم والأفياء وقسمتها . ولذلك حمل جمهور العلماء هذه الآية على حقوق قرابة النسب بين الناس . وعن علي زين العابدين أنها تشمل قرابة النبي .
والتعريف في { القربى } تعريف الجنس ، أي القربى منك ، وهو الذي يعبر عنه بأن ( ال ) عوض عن المضاف إليه . وبمناسبة ذكر إيتاء ذي القربى عطف عليه من يماثله في استحقاق المواساة .
وحق المسكين هو الصدقة . قال تعالى : { ولا تحضون على طعام المسكين } [ الفجر : 18 ] وقوله : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 14 16 ] . وقد بينت آيات وأحاديث كثيرة حقوق المساكين وأعظمها آية الزكاة ومراتب الصدقات الواجبة وغيرها .
و{ ابن السبيل } هو المسافر يمر بحي من الأحياء ، فله على الحي الذي يمر به حق ضيافته .
وحقوق الأضياف جاءت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جايزته يوم وليلة " وكانت ضيافة ابن السبيل من أصول الحنيفية مما سنّه إبراهيم عليه السلام قال الحريري : « وحُرمة الشيخ الذي سَن القِرى » .
وقد جعل لابن السبيل نصيب من الزكاة .
وقد جمعت هذه الآية ثلاث وصايا مما أوصى الله به بقوله : { وقضى ربك } الآيات [ الإسراء : 23 ] .
فأما إيتاء ذي القربى فالمقصد منه مقارب للمقصد من الإحسان للوالدين رعياً لاتحاد المنبت القريب وشدًّا لآصرة العشيرة التي تتكون منها القبيلة .
وفي ذلك صلاح عظيم لنظام القبيلة وأمنها وذبها عن حوزتها .
وأما إيتاء المسكين فلمقصد انتظام المجتمع بأن لا يكون من أفراده من هو في بؤس وشقاء ، على أن ذلك المسكين لا يعدو أن يكون من القبيلة في الغالب أقعده العجز عن العمل والفقر عن الكفاية .
وأما إيتاء ابن السبيل فلإكمال نظام المجتمع ، لأن المارّ به من غير بنيه بحاجة عظيمة إلى الإيواء ليلاً ليقيه من عوادي الوحوش واللصوص ، وإلى الطعام والدفء أو التظلل وقاية من إضرار الجوع والقر أو الحر .
لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفاً عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة .
ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به ، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه ، فهذا وإن كان غرضاً مهماً من التشريع المسوق في هذه الآيات قد وقع موقع الاستطراد في أثناء الوصايا المتعلقة بإيتاء المال ليظهر كونه وسيلة لإيتاء المال لمستحقيه ، وكونه مقصوداً بالوصاية أيضاً لذاته . ولذلك سيعود الكلام إلى إيتاء المال لمستحقيه بعد الفراغ من النهي عن التبذير بقوله : { وإما تعرضن عنهم } الآية ، [ الإسراء : 28 ] ثم يعود الكلام إلى ما يبين أحكام التبذير بقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [ الإسراء : 29 ] .
وليس قوله : { ولا تبذر تبذيراً } متعلقاً بقوله : { وآت ذا القربى حقه } الخ . . لأنّ التبذير لا يوصف به بذل المال في حقّه ولو كان أكثر من حاجة المعطى ( بالفتح ) .
فجملة { ولا تبذر تبذيرا } معطوفة على جملة { ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] لأنها من جملة ما قضى الله به ، وهي معترضة بين جملة { وآت ذا القربى حقه } الآية وجملة { وإما تعرضن عنهم } الآية [ الإسراء : . 2 ] ، فتضمنت هذه الجملة وصية سادسة مما قضى الله به .
والتبذير : تفريق المال في غير وجهه ، وهو مرادف الإسراف ، فإنفاقه في الفساد تبذير ، ولو كان المقدار قليلاً ، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير ، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير . وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير : لا خير في السرف ، فأجابه المنفق : لا سرف في الخير ، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس .
ووجه النهي عن التبذير هو أن المال جُعل عوضاً لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينات . وكان نظام القصد في إنفاقه ضَامِنَ كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أمِن صاحبه من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجاً ، فتجاوز هذا الحد فيه يسمى تبذيراً بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف ، وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر ءَاتتٍ من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة لأن الأموال محدودة ، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظاً لإقامة أود المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدة ، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة .
فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله ، قال تعالى : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] ، واكتساب المحمدة بين قومه . وقديماً قال المثل العربي نعم العون على المروءة الجِدة . وقال . . . اللهم هب لي حمداً ، وهب لي مجداً ، فإنه لا حَمد إلا بِفعال ، ولا فِعال إلا بمال .
والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عُدة لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نِير سلطانه .
ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطبين في قوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } [ النساء : 5 ] ولم يقل أموالهم مع أنها أموال السفهاء ، لقوله بعده : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] فأضافها إليهم حين صاروا رشداء .
وما مُنع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير . ولذلك لو تصرف السفيه في شيء من ماله تصرف السداد والصلاح لمضى .
وذكر المفعول المطلق { تبذيراً } بعد { ولا تبذر } لتأكيد النهي كأنه قيل : لا تبذر ، لا تبذر ، مع ما في المصدر من استحضار جنس المنهي عنه استحضاراً لما تُتصور عليه تلك الحقيقة بما فيها من المفاسد .