قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } أي : اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم ، فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإنابة استجابةً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان عن منصور عن أبي ذر عن يسبع الكندي عن النعمان ابن بشير قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي الزرقي ، حدثنا الحسن بن علي بن يوسف الشيرازي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي ببغداد ، حدثنا محمد ابن عبيد بن العلاء ، حدثنا أحمد بن بديل ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو المليح قال : سمعت أبا صالح يذكر عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع الله غضب الله عليه " وقيل : الدعاء هو الذكر والسؤال { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } قرأ ابن كثير و أبو جعفر و أبو بكر : سيدخلون بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء ، ومعنى داخرين صاغرين ذليلين .
ثم أمر - سبحانه - عباده المؤمنين أن يكثروا من التضرع إليه بالدعاء فقال : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ . . . } .
أى : وقال ربكم - أيها المؤمنون - تضرعوا إلى بالدعاء ، وتقربوا إلى بالطاعات ، أستجب لكم ، ولا أخيب لكم رجاء .
ولا تنافى بين تفسير الدعاء هنا بالسؤال والتضرع إلى الله - تعالى - ، وبين تفسيره بالعبادة ، لأن الدعاء هو لون من العبادة ، بل هو مخها كما جاء فى الحديث الشريف .
والإِنسان الذى التزم فى دعائه الآداب والشروط المطلوبة ، كان دعاؤه جديرا بالإِجابة ، فقد حكى لنا القرآن الكريم فى آيات كثيرة ، أن الأنبياء والصالحين ، عندما دعوا الله - تعالى - أجاب لهم دعاءهم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم }
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الذين يتكبرون عن طاعة الله وعن دعائه فقال : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أى : إن الذين يستكبرون عن طاعتى ، وعن التقرب إلى بما يرضينى ، سيدخلون يوم القيامة نار جهنم حالة كونهم أذلاء صاغرين .
فقوله : { دَاخِرِينَ } من الدخور بمعنى الانقياد والخضوع يقال : دخر فلان يدخر دخورا إذا ذل وهان .
هذا ، وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث التى تتصل بموضوع الدعاء فارجع إليه إن شئت .
وقوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } آية تفضل ونعمة ووعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالإجابة عند الدعاء ، وهذا الوعد مقيد بشرط المشيئة لمن شاء تعالى ، لا أن الاستجابة عليه حتم لكل داع ، لا سيما لمن تعدى في دعائه ، فقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الذي قال : اللهم أعطني القصر الأبيض الذي عن يمين الجنة{[10014]} . وقالت فرقة : معنى : { ادعوني } و { استجب } ، معناه : بالثواب والنصر ، ويدل على هذا التأويل قوله : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } ويحتج له لحديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الدعاء هو العبادة » وقرأ هذه الآية{[10015]} . وقال ابن عباس : المعنى : وحدوني أغفر لكم . وقيل للثوري : ادع الله ، فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء .
وقرأ ابن كثير وأبو جعفر : «سيُدخَلون » بضم الياء وفتح الخاء . وقرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر والحسن وشيبة : بفتح الياء وضم الخاء ، واختلف عن أبي عمرو وعن عاصم . والداخر : هو الصاغر الذليل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِيبْ لَكُمْ" يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم "ادعوني": يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دون الأوثان والأصنام وغير ذلك "أسْتَجِبْ لَكُمْ "يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم...
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا عبد الله بن داود، عن الأعمش، عن زرّ، عن يُسَيْع الحضرمي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدّعاءُ هُوَ العِبادَةُ». وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَقَالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي"...
وقوله: "إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِي" يقول: إن الذين يتعظمون عن إفرادي بالعبادة، وإفراد الألوهة لي "سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ داخِرِينَ" بمعنى: صاغرين...
وقد قيل: إن معنى قوله: "إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِي": إن الذين يستكبرون عن دعائي.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الاستجابة: الإثابة؛ وفي تفسير مجاهد: اعبدوني أثبكم. وعن الحسن -وقد سئل عنها -: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
اعلم أنه تعالى لما بين أن القوم بالقيامة حق وصدق، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}.
عندي فيه وجه آخر وهو أنه قال: {ادعوني استجب لكم} فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولا عند الله، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت.
{إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فهذا الخبر يقتضي أن ترك الدعاء أفضل، هذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد فكيف الجمع بينهما؟ قلنا لا شك أن العقل إذا كان مستغرقا في الثناء كان ذلك أفضل من الدعاء، لأن الدعاء طلب للحظ والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الحظ، أما إذا لم يحصل ذلك الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى، لأن الدعاء يشتمل على معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} آيةُ تَفَضُّلٍ ونِعْمَةٍ وَوَعْدٍ لأمَّةِ محمَّدِ صلى الله عليه وسلم بالإجابَةِ عنْدَ الدُّعَاءِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
التوجه إلى الله بالعبادة، ودعاؤه والتضرع إليه، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان. والله -سبحانه- يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه؛ وينذر الذين يستكبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار: (وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين).. وللدعاء أدب لا بد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال. والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله، والاستجابة فضل آخر. وقد كان عمر -رضي الله عنه- يقول:"أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه" وهي كلمة القلب العارف، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما -حين يوفق الله- متوافقان متطابقان. فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلاً على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كانت المجادلة في آيات الله تشمل مجادلتهم في وحدانية الإِلهية كما دل عليه قوله الآتي، {ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون اللَّه قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً} [غافر: 73، 74]، فجَعل {لم نكن ندعوا} نقيض ما قيل لهم {أين ما كنتم تشركون}، وتشمل المجادلَة في وقوع البعث كما دل عليه قوله بعدَ هذه {ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات اللَّه أنى يصرفون} إلى قوله: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 69- 71] الآية، أُعقب ذكر المجادلة أولاً بقوله: {لَخَلق السموات والأرضِ أكْبرُ من خَلقِ النَّاس} وذلك استدلال على إمكان البعث، ثم عطف عليه قوله: {وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِب لكُم} الآية تحذيراً من الإِشراك به، وأيضاً لما ذُكر أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده أمراً مفرّعاً على توبيخ المشركين بقوله: {ذلكم بأنَّه إذَا دُعيَ الله وحْدَه كَفَرتم} [غافر: 12] وعلى قوله عقب ذلك: {ومَا يتذكَّرُ إلاَّ مَن يُنيب} [غافر: 13] وانتقَل الكلام أثر ذلك إلى الأَهمّ وهو الأمر بإنذار المشركين بقوله: {وأنذِرْهُم يَومَ الأزِفَة} [غافر: 18] الخ، وتتابعت الأغراض حتى استوفت مقتضاها، عاد الكلام الآن إلى ما يشمل عبادة المؤمنين الخالصةَ لله تعالى وهو أيضاً متصل بقوله: {ومَا دَعاؤُا الكافرين إلاَّ في ضلال} [غافر: 50]. فلما تقدم ذكر الدعاء بمعنييه: معنى العبادة، ومعنى سُؤال المطلوب، أردف بهذا الأمر الجامع لكلا المعنيين.
والقول المخبَر عنه بفعل: {قال ربكم} يجوز أن يراد به كلام الله النفسي، أي ما تعلقت إرادة الله تعلقاً صلاحياً، بأن يقوله عند إرادة تكوينه، ويجوز أن يراد القول اللفظي ويكون التعبير ب (قال) الماضي إخباراً عن أقوال مضت في آيات قبل نزول هذه الآية مثل قوله: {فادعوا اللَّه مخلصين له الدين} [غافر: 14] بخلاف قوله: {أجيب دعوة الداعِ إذ دعان} [البقرة: 186] فإنه نزل بعد هذه الآية، ويجوز أن يكون الماضي مستعملاً في الحال مجازاً، أي يقول ربكم: ادعوني.
والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمُنَادَى، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"الدعاء هو العبادة" ثم قرأ {وقَالَ ربُّكم ادعُوني أستَجِب لكم إنَّ الذِّين يستَكبرون عَن عبادتي سيَدخلُون جهنَّم داخِرين} رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح، فإن قوله: « الدعاء هو العبادة» يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة. فالدعاء يطلق على سؤال العبد من الله حاجته وهو ظاهر معناه في اللغة، ويطلق على عبادة الله على طريق الكناية لأن العبادة لا تخلو من دُعاء المعبود بنداءِ تعظيمه والتضرع إليه، وهذا إطلاق أقل شيوعاً من الأول، ويراد بالعبادة في اصطلاح القرآن إفراد الله بالعبادة، أي الاعتراف بوحدانيته.
والاستجابة تطلق على إعطاء المسؤول لمن سأله وهو أشهر إطلاقها، وتطلق على أثر قبول العبادة بمغفرة الشرك السابق وبحصول الثواب على أعمال الإِيمان فإفادة الآية على معنى طلب الحاجة من الله يناسب ترتب الاستجابة على ذلك الطلب معلقاً على مشيئة الله أو على استيفاء شروط قبول الطلب، وإعطاء خير منه في الدنيا، أو إعطاء عوض منه في الآخرة. وإفادتها على معنى إفراد الله بالعبادة، أي بأن يتوبوا عن الشرك، فترتب الاستجابة هو قبول ذلك، فإن قبول التوبة من الشرك مقطوع به.
فلما جمعت الآية بين الفعلين على تفاوت بين شيوع الإِطلاق في كليهما علمنا أن في المعنى المراد ما يشبه الاحتباك بأن صرح بالمعنى المشهور، في كلا الفعلين ثم أعقب بقوله: {إنَّ الذين يَسْتكبرون عَن عِبادي}، فعلمنا أن المراد الدعاء والعبادة، وأن الاستجابة أريد بها قبول الدعاء وحصول أثر العبادة. ففعل {ادعوني} مستعمل في معنييه بطريقة عموم المشترك.
وفعل {أستجب} مستعمل في حقيقته ومجازه، والقرينة ما علمتَ، وذلك من الإِيجاز والكلامِ الجامع.
وتعريف الله بوصف الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين لما في هذا الوصف وإضافتِه من الإِيماء إلى وجوب امتثال أمره لأن من حق الربوبية امتثال ما يأمر به موصوفها لأن المربوبَ محقوق بالطاعة لربه، ولهذا لم يعرج مع هذا الوصف على تذكير بنعمته ولا إشارة إلى كمالات ذاته.
وجملة {إنَّ الذين يَسْتكبرون عن عِبادَتي سيدخلون جهنَّم} تعليل للأمر بالدعاء تعليلاً يفيد التحذير من إباية دعاء الله حين الإِقبال على دعاء الأصنام، كما قال تعالى: {ذلكم بأنَّه إذا دُعِي الله وحْدَه كفرتم وإن يُشرك به تُؤْمنوا} [غافر: 12] وكان المشركون لا يضرعون إلى الله إلا إذا لم يتوسموا استجابة شركائهم، كما قال تعالى: {فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} [الإسراء: 67]. ومعنى التعليل للأمر بالدعاء بهذا التحذير: أن الله لا يحب لعباده ما يفضي بهم إلى العذاب، قال تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7] ففي الآية دليل على طلب الله من عباده أن يدعوه في حاجاتهم.
وقرأ الجمهور {سيدخلون} بفتح التحتية وضم الخاء. وقرأه أبو جعفر ورويس عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب، أي سيدخلهم ملائكة العذاب جهنم.
معنى {رَبُّكُـمُ} من تولى تربيتكم، والتربية هنا تعني الإيجاد من العدم والإمداد من عُدْم، وما دام هو ربي فأنا مسئولٌ منه يضمن لي رزقي وعيشي في الدنيا، وقبل ذلك أعطاني الجوارح التي تعمل، والأعضاء التي بها أعيش، فهو ربي وخالقي الذي استدعاني للكون، ووفَّر لي فيه أسبابَ الحياة.
لذلك لما أراد سبحانه أنْ يجعل نموذجاً في الكون جعله بحيث يتعاطف الكونُ مع ذاته ويتكامل في نفسه، فجعل هذا قوياً، وهذا ضعيفاً، هذا صحيحاً وهذا مريضاً.
فالقوي حركته في الحياة حركة كاملة قوية تزيد عن حاجته، وقال له: ما زاد عن حاجتك اجعله للضعيف الذي لا يقدر على الحركة، والخالق سبحانه قادر على جَعْل الناس جميعاً أقوياء، لكن أراد أنْ يرتبط الخَلْق في حركة الحياة ارتباطَ حاجة لا ارتباطَ تفضُّل؛ لأن الارتباط لا يأتي بقانون التفضُّل، فالتفضل لا إلزامَ فيه، والمتفضل بالشيء حُرٌّ، يفعل أو لا يفعل.
وقوله: {ادْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يعني: فيما عجزتُم عن أسبابه ولن تقدروا عليه، ولم تجدوا من بيئتكم عَوْناً عليه، فليس لكم إلا التوجُّه إليَّ تدعونني، فأستجيب {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوۤءَ} [النمل: 62] فأنا ربكم وخالقكم استدعيتُكم إلى الوجود ومنحتكم الأسباب والجوارح، واستخلفتم في الأرض، فليس لكم ملجأ غيري تلجأون إليه إنْ عزَّت عليكم الأسباب.
أما إنْ كانت الأسبابُ ميسَّرة لكم، وقام كلُّ مكلَّف بدوره، فلا تتركوا الأسباب وتقولوا: يا ربّ، عليكم بما في أيديكم من الأسباب أولاً، زاولوها فإنْ ضاقتْ بكم فاذهبوا إلى المسبِّب.
لكن نلحظ في هذه المسألة أن الله تعالى أمرنا بالدعاء ووعدنا الإجابة، ومع ذلك منا مَنْ يدعو فلا يُستجاب له، فلماذا؟ قالوا: لأنك تدعو وأنت غير مُضطر، فلو كنتَ في حالة الاضطرار لاستُجيبَ لك. أنت تسكن في مسكن محترم وتدعو الله أن يكون لك (فيلا) أو قصر، فإنْ أعطاك القصر قلت: أريد عمارة تصرف على القصر، هذا دعاء عن ترف لا عن اضطرار، والإجابة هنا مشروطة بالمضطر.
والحق سبحانه وتعالى لا يُعفي عبداً عن مسئولية استطراق النفع للعباد، قالوا: لأن الواجد يبذل، وغير الواجد ينصح الواجد، فإنْ نصحت دون جدوى فلن تبرأ ذمتك حتى بعد ذلك.
ولو قرأتَ القرآن تجد قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ الْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91].
متى هذا؟ قالوا: إذا لم يكن عندك مال لا بدَّ أنْ تنصح {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] نصحت ولم يستجب لك. قالوا: اقدر على نفسك، كيف؟
{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فهل أعفى أحداً؟ لا بل حثَّ الجميع على أنْ يفعلوا: إما بذل المال، وإما بذل المقال، فإذا لم تستطع هذا ولا ذاك فيجب أنْ تحزن لأنك لم تشارك، ولا يكفي هنا الألم الوجداني، بل لا بدَّ أنْ يصحبه انفعال عاطفي ينتج عنه بكاء، تبكي أنك لم تجد شيئاً تنفقه في سبيل الله.
إذن: المسألة استطراق نفعي في الكون، هذا الاستطراق لا يدعُ أحداً منا في حاجة.
وبعد ذلك نقول له: أأنت فقير عَجْز أم احتراف؟ إنْ كان فقير احتراف لا يُحسب ولا يُؤْبه له، وإن كان فقير عجز فله أنْ يجلس في بيته مُعززاً مكرَّماً، والغني هو الذي يذهب إليه ويعطيه حقَّه، فالقادر إذن أصبح في خدمة غير القادر.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} معنى: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دعائي والذلة لي، وإظهار الحاجة إليّ، لذلك قال أهل المعرفة: لا يكُنْ حظك من الدعاء أنْ تُجاب، لكن اجعل حظك من الدعاء ذلةَ محتاجٍ لمن معه الخير، هذه هي معنى العبادة هنا؟
لذلك تجد ربك عز وجل دائماً يُصحِّح لك خطأك في الدعاء: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11].
فقد تدعو أنت لنفسك بشرٍّ تحسبه خيراً، ومن رحمة الله بك ألاّ يستجيب لك، لذلك قلنا في الثناء على الله تعالى: سبحانك يا مَنْ تُصوِّب خطأ الداعين بألاَّ تستجيب، وبذلك حميتنا من الضر، فكم يدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير...
لكم لماذا {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: منكسرين صاغرين أذلاء، قالوا: لأنك لا تدعو واحداً إلا إذا كنتَ مطيعاً له، لأن الدعاء والعبادة متساويان، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:"كل أمر لا يُبدأ باسم الله فهو أبتر" يعني: لا بركة فيه.
وعلمنا أن نقول: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني: أنا أبدأ عملي ببسم الله لكي تكون يد الله معي في الفعل، فما معنى (الرحمن الرحيم) هنا؟
قالوا: ربما كانت عاصياً فأذكر له سبحانه صفة الرحمة، لأنه سبحانه لا يتخلَّى عن عبده حتى لو كان عاصياً، فهؤلاء سيدخلون النار داخرين أذلاء لأنهم استنكفوا أنْ يدعو الله واستكبروا عن عبادته، فالنار جزاء الاستكبار.