قوله تعالى : { فكأين } فكم { من قرية أهلكتها } بالتاء ، هكذا قرأ أهل البصرة و يعقوب ، وقرأ الآخرون : ( أهلكناها ) بالنون والألف على التعظيم ، { وهي ظالمة } يعني : وأهلها ظالمون { فهي خاوية } ساقطة { على عروشها } على سقوفها ، { وبئر معطلة }يعني : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها { وقصر مشيد } قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل ، من قولهم شاد بناءه إذا رفعه . وقال سعيد بن جبير و مجاهد وعطاء : مجصص ، من الشيد ، وهو الجص . وقيل : إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر فعلى قلة جبل ، والبئر في سفحه ، ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين . وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها : حاضوراء وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح ، نجوا من العذاب ، أتوا حضرموت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح ، فسمي حضرموت ، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلاً فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى كثروا ، ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله إليهم نبياً يقال له حنظلة بن صفوان ، كان حمالاً فيهم ، فقتلوه في السوق فأهلكهم الله ، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم .
وبعد هذا البيان المشتمل على سوء عاقبة هذه الأمم التى كذبت رسلها . . . أتبع ذلك - سبحانه - ببيان مصير كثير من الأمم الظالمة فقال : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } .
وكلمة " كأين " مركبة من كاف التشبيه ، ومن أى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير ، ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها . ومميزها غالبا ما يجر بمن كما فى الآية وفى غيرها . قال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ . . } { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } قال الآلوسى : وقوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } منصوب بمضمر يفسره قوله - تعالى - : { أَهْلَكْنَاهَا } أى : فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها . . . أو مرفوع على الابتداء ، وجملة { أَهْلَكْنَاهَا } خبره .
أى : فكثير من القرى أهلكناها . . . وقوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من مفعول أهلكنا . . .
ولفظ { خَاوِيَةٌ } بمعنى ساقطة أو خالية . يقال خوى البيت يخوى إذا سقط أو خلا ممن يسكنه .
والعروش : جمع عرش وهو سقف البيت ، ويسمى العريش : وكل ما يُهيأ ليُسْتَظَلَ به فهو عريش .
وبئر معطلة أى : مهجورة لهلاك أهلها ، يقال : بأر فلان الأرض إذا حفرها ليستخرج منها الماء .
والمَشِيد : المجصص بالشِّيد وهو الجِصّ . يقال : شاد فلان بيته يَشِيده ، إذا طلاه بالشِّيد .
والمعنى : وكثير من القوى أهلكناها بسبب ظلمهم وكفرهم ، فإذا ما نظرت إليها وجدتها خالية من أهلها ، وقد سقطت سقوفها على جدرانها . وكثير من الآبار التى كانت تتفجر بالماء عطلناها وصارت مهجورة ، وكثير - أيضا - من القصور المشدة الفخمة أخليناها من أهلها . وذلك لأنهم كذبوا رسلنا ، وجحدوا نعمنا ، فدمرناهم تدميرا . وجعلنا مساكنهم من بعدهم اثرا بعد عين .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على أشد ألوان الوعيد والتهديد لكفار قريش الذين كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضوا عن دعوته .
وشبيه بهذه الاية قوله - تعالى - : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً }
{ كأين } هي كاف التشبيه دخلت على «أي » قال سيبويه وقد أوعبت القول في هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل عمران في قوله { وكأين من نبي قاتل }{[8399]} [ آل عمران : 146 ] ، وهي لفظة إخبار وقد تجيء استفهاماً ، وحكى الفراء «كأين ما لك » ، وقرأت فرقة «أهلكناها » ، وقرأت فرقة «أهلكتها » ، بالإفراد والمراد أهل القرية و { ظالمة } معناه بالكفر ، و { خاوية } ، معناه خالية ومنه خوى النجم اذا خلا من النور ، ونحوه ساقطة { على عروشها } ، والعرش السقوف والمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي على العروش ، { وبئر } ، قيل هو معطوف على «العروش » وقيل على «القرية » وهو أصوب{[8400]} ، وقرأت فرقة «وبيئر » بهمزة وسهلها الجمهور ، وقرأت فرقة «مَعْطَلة » بفتح الميم وسكون العين وفتح الطاء وتخفيفها ، والجمهور على «مُعَطّلة » بضم الميم وفتح العين وشد الطاء ، و «المشيد » المبني بالشيد وهو الجص ، وقيل «المشيد » المعلى بالآجر ونحو : فمن الشيد قول عدي بن زيد :
شاده مرمراً وجلله كلساً . . . فللطير في ذراه وكور{[8401]}
شاد : بنى بالشيد ، والأظهر في البيت أنه أراد علاه بالمرمر ، وقالت فرقة في هذه الآية إن { مشيد } معناه معلى محصناً ، وجملة معنى الآية تقتضي أنه كان كذلك قبل خرابه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.