قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } . نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلاً ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل الله مات فلان ، وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها ، فأنزل الله تعالى : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ) .
قوله تعالى : { بل أحياء ولكن لا تشعرون } . كما قال في شهداء أحد ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) قال الحسن : إن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية فيصل إليهم الوجع .
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتاً فقال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : نزلت هذه الآية في قتلى غزوة بدر ، قتل من المسلمين فيها أربعة عشر ؤجلا : ست من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكان الناس يقولون . مات فلان ومات فلان . فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم : إنهم ماتوا .
وقيل إن الكفار والمنافقين قالوا : إن الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمرضاة محمد من غير فائدة ، فنزلت هذه الآية .
والسبيل : الطريق وسبيل الله : طريق مرضاته ، وإنما قيل للجهاد سبيل الله ، لأنه طريق إلى ثواب الله وإعلاء كلمته . و { أَمْوَاتٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : لا تقربوا هم أموات وكذلك قوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أي : هم أحياء .
قال الآلوسي : " والجملة معطوفة على { وَلاَ تَقُولُواْ } اضراب عنه ، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل قولوا أحياء ، لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضاً صحيحاً " .
أي : لا تقربوا أيها المؤمنون لمن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه إنهم أموات ، بمعنى أنهم تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الميت ، بل هم أحياء- في عالم غير عالمكم كما قال- تعالى- { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } وقوله : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أي : لا تحسون ولا تدركون حالهم بالمشاعر ، لأنها من شئون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي .
قال الآلوسي ما ملخصه : ثم إن نهى المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات ، إما أن يكون دفعاً لإِيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ . . . وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولن يروه أبداً . . . ثم قال : وقد اختلف في هذه الحياة التي يحياها أولئك الشهداء عند ربهم : فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقة بالروح والجسد ولكنها لا ندركها في هذه النشأة واستدلوا بسياق قوله - تعالى - : { عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون } وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم . وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون ولا ينافي ذلك . . وذهب البلخي إلى نفي الحياة عنهم وقال ؛ معنى { بَلْ أَحْيَاءٌ } إنهم يحبون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء . فالآية على حد قوله - تعالى - { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بسبب ما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل ، كما روى عن علي أنه قال : " هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة " .
ثم قال : " ولا يخفى أن هذه الأقوال - ما عدا الأولين - في غاية الضعف ، بل نهاية البطلان ، والمشهور ترجيح القول الأول " .
والذي نراه أن الآية الكريمة قد نبهتنا إلى أن للشهداء مزية تجعلهم مفضلين عمن سواهم من كثير من الناس ، وهي أنهم في حياة سارة ، ونعيم مقيم عند ربهم ، وهه الحياة الممتازة تسمو بهم عن أن يقال فيهم كما يقال في غيرهم إنهم أموات وإن كان المعنى اللغوي لللموت حاصلا لهم ، ونحن نؤمن بهذه الحياة السارة لهم عند ربهم ونعتقد صحتها كما ذكرها الله - تعالى - إلا أننا نفوض كيفيتها وكنهها إليه - سبحانه - إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحي ، كما قال - تعالى - : { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أي : لا تشعرون بحياتهم بعد مفارقتهم لهذه الدنيا ، لأنها حياة من نوع معين لا يعلمها إلا علام الغيوب .
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } أي هم أموات { بل أحياء } أي بل هم أحياء . { ولكن لا تشعرون } ما حالهم ، وهو تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات ، وأنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل وبالوحي ، وعن الحسن { إن الشهداء أحياء عند ربهم تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع ) . والآية نزلت في شهداء بدر ، وكانوا أربعة عشر ، وفيها دلالة على أن الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت داركة ، وعليه جمهور الصحابة والتابعين ، وبه نطقت الآيات والسنن ، وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ، ومزيدة البهجة والكرامة .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ( 154 )
وقوله تعالى : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } الآية ، سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأحد مات فلان ومات فلان ، فكره الله أن تحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم ، فنزلت هذه الآية ، وأيضاً : فإن المؤمنين صعب عليهم فراق إخوانهم وقراباتهم فنزلت الآية مسلية لهم ، تعظم منزلة الشهداء ، وتخبر عن حقيقة حالهم ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم ، ويبين ذلك من حديث أم حارثة في السير( {[1429]} ) ، والفرق بين الشهيد وغيره إنما هو الرزق( {[1430]} ) ، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام حالهم التي كانت في الدنيا فرزقهم .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة( {[1431]} ) ، وروي أنهم في قبة خضراء ، وروي أنهم في قناديل من ذهب ، إلى كثير من هذا ، ولا محالة أنها أحوال لطوائف( {[1432]} ) أو للجميع في أوقات متغايرة ، وجمهور العلماء على أنهم في الجنة ، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة : إنه في الفردوس ، وقال مجاهد : هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها ، و { أموات } رفع بإضمار الابتداء والتقدير هم أموات ، ولا يجوز إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب كما يصح في قولك قلت كلاماً وحجة .
وقوله { ولكن لا تشعرون } أي قبل أن نشعركم( {[1433]} ) .
قوله : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء } عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله ، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه ، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكراً عندما يَرى الشهيد كرامته بعد الشهادة ، وعندما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية ، فقوله : { ولا تقولوا } نهي عن القول الناشىء عن اعتقاد ، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلاّ ما يَعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا ، والظاهر أن هذا تكميل لقوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] كما تقدَّم من حديث البراء فإنه قال : " قتل أناس قبل تحويل القبلة " فأعقب قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة .
وارتفع { أمواتٌ } على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي لا تقولوا هم أموات .
و { بل } للإضراب الإبطالي إبطالاً لمضمون المنهي عن قوله ، والتقدير بل هم أحياء ، وليس المعنى بل قُولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبرَ العظيمَ ، فقوله : « أحْيَآء » هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد { بل } الإضرابية .
وإنما قال : { ولكن لا تشعرون } للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية ، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح ، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم ، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة ، ولذلك ورد في الحديث " إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها " . والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية ، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها .