قوله تعالى : { فوسوس لهما الشيطان } ، أي : إليهما ، والوسوسة : حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان .
قوله تعالى : { ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما } ، أي : ليظهر لهما ما غطي وستر عنهما من عوراتهما ، قيل : اللام فيه لام العاقبة ، وذلك أن إبليس لم يوسوس بهذا ولكن كان عاقبة أمرهم ذلك ، وهو ظهور عورتهما ، كقوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] ثم بين الوسوسة فقال : { وقال } إبليس لآدم وحواء .
قوله تعالى : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } ، يعني : إلا كراهية أن تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر .
قوله تعالى : { أو تكونا من الخالدين } ، من الباقين الذين لا يموتون ، كما قال في موضع آخر : { هل أدلك على شجرة الخلد } . [ طه :120 ] .
قوله - تعالى - : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } أى : ألقى إليهما إبليس الوسوسة ، والوسوسة في الأصل الصوت الخفى ، ومنه قيل لصوت الحلى . وسواس . والمراد بها هنا : الحديث الخفى الذي يلقيه الشيطان في قلب الإنسان ليقارف الذنب .
وقوله : { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } و { وُورِيَ } من المواراة وهى الستر .
والسوءة . فرج الرجل والمرأة ، من السوء . وسميت بذلك ، لأن انكشافها يسوء صاحبها . وقيل الكلام كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه .
والمعنى : أن إبليس وسوس إلى آدم وحواء بأن يأكلا من الشجرة المحرمة لتكون عاقبة ذلك أن يظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر . وفى هذا التعبير تصريح بأن كشف العورة من أقبح الفواحش التي نهى الله - تعالى - عنها .
وقد حكى القرآن أن إبليس لم يكتف بالوسوسة ، وإنما خدعهما بقوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين } .
أى قال لهما : ما نهاكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا كراهية أن تكونا مكلين أو تكونا من الخالدين الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين .
وقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفى ليكون علة . أى كراهية أن تكونا ملكين .
{ فوسوس لهما الشيطان } أي فعل الوسوسة لأجلهما ، وهي في الأصل الصوت الخفي كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلي . وقد سبق في سورة " البقرة " كيفية وسوسته . { ليُبدي لهما } ليظهر لهما ، واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد أيضا بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ، ولذلك عبر عنهما بالسوأة . وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع . { ما وُوري عنهما من سوآتهما } ما غطي عنهما من عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ، وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور كما قلبت في أو يصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ " سوآتهما " بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو وسوآتهما بقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها . { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا } إلا كراهة أن تكونا . { ملكين أو تكونا من الخالدين } الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة ، واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وجوابه : أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضا ما للملائكة من الكمالات الفطرية ، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ، وذلك لا يدل على فضلهم مطلقا .
«الوسوسة » الحديث في اختفاء همساً وسراراً من الصوت ، والوسواس صوت الحلي فشبه الهمس به ، وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه ، ، ، هذا في حال الشيطان معنا الآن ، وأما مع آدم فممكن أن تكون وسوسة بمجاورة خفية أو بإلقاء في نفس ، ومن ذلك قول رؤبة : [ الرجز ]
فهذه عبارة عن كلام خفي ، و { الشيطان } يراد به إبليس نفسه ، واختلف نقلة القصص في صورة وسوسته فروي أنه كان يدخل إلى الجنة في فم الحية مستخفياً بزعمه فيتمكن من الوسوسة ، وروي أن آدم وحواء كانا يخرجان خارج الجنة فيتمكن إبليس منهما ، وروي أن الله أقدره على الإلقاء في أنفسهما فأغواهما وهو في الأرض .
قال القاضي أبومحمد : وهذا قول ضعيف يرده لفظ القرآن ، واللام في قوله { ليبدي } هي على قول كثير من المؤلفين لام الصيرورة والعاقبة ، وهذا بحسب آدم وحواء وبحسب إبليس في هذه العقوبة المخصوصة لأنه لم يكن له علم بها فيقصدها .
قال القاضي أبو محمد : ويمكن أن تكون لام كي على بابها بحسب قصد إبليس إلى حط مرتبتهما وإلقائهما في العقوبة غير المخصوصة ، و { ما ووري } معناه :ما ستر ، من قولك وارى يواري إذ ستر ، وظاهر هذا اللفظ أنها مفاعلة من واحد ، ويمكن أن تقدر من اثنين لأن الشيء الذي يوارى هو أيضاً من جهة ، وقرأ ابن وثاب «ما وري » بواو واحدة ، وقال قوم : إن هذه اللفظة في هذه الآية مأخوذة من وراء .
قال القاضي أبو محمد : وهو قول يوهنه التصريف ، و «السوأة » الفرج والدبر ، ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء ، وقرأ الحسن ومجاهد من «سوّتهما » بالإفراد وتسهيل الهمزة وشد الواو ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحسن والزهري : «سوّتهما » بالإفراد وتسهيل الهمزة وتشديد الواو وحكاها سيبويه لغة ، قال أبو الفتح : ووجهها حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو ، فيقولون سوة ومنهم من يشدد الواو ، وقالت طائفة إن هذه العبارة إنما قصد بها أنهما كشفت لهما معانيهما وما يسوءهما ولم يقصد بها العورة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول كان اللفظ يحتمله إلا أن ذكر خصف الورق يرده إلا أن يقدر الضمير في { عليهما } [ الآية : 22 ] عائداً على بدنيهما إذا تمزقت عنهما ثياب الجنة ، فيصح القول المذكور .
وقوله تعالى : { وقال ما نهاكما } الآية هذا القول الذي حكي عن إبليس يدخله من هذا التأويل ما دخل الوسوسة ، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحواراً ، وممكن أن يقول إلقاء في النفس ووحياً و { إلا أن } تقديره عند سيبويه والبصريين : إلا كراهية أن ، وتقديره عند الكوفيين «إلا أن لا » على إضمار لا .
قال القاضي أبو محمد : ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار الحروف ، وقرأ جمهور الناس «ملَكين » بفتح اللام وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحاك «مِلكين » بكسر اللام ، ويؤيد هذه القراءة قوله في آية أخرى { وملك لا يبلى } .
قال القاضي أبو محمد : وقال بعض الناس : يخرج من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر وهي مسألة اختلف الناس فيها وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة والفضل بيد الله ، وقال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا تكون لهما شهوة في طعام .