ثم بين - سبحانه - موقف أهل العلم النافع مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه ، وموقف الكافرين من ذلك ، ورد - سبحانه - على هؤلاء الكافرين بما يثبت ضلالهم وجهلهم ، فقال - تعالى - : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم . . . لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } .
والمراد بالرؤية فى قوله - تعالى - : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } المعرفة والعلم واليقين . والمراد بالذين أوتوا العلم : المؤمنون الصادقون الذين اتبعوا النبى صلى الله عليه وسلم فى كل ما جاءهم به من عند ربه ، سواء أكانوا من العرب أم من غيرهم ، كمؤمنى أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
والجملة الكريمة مستأنفة لمدح هؤلاء العلماء العقلاء على إيمانهم بالحق ، أو معطوف على يجزى فى قوله - تعالى - قبل ذلك : { لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } والمراد ب { الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } القرآن الكريم .
والمعنى : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لما يقوله الكافرون بشأنك ولما يفعلونه لإِبطال دعوتك ، فإن الذين أوتوا العلم وهم أتباعك الصادقون ، يعلمون ويعتقدون أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو الصدق الذى لا يشوبه كذب ، وهو الكتاب الذى يهدى من اتبعه وأطاع توجيهاته إلى دين الله - تعالى - ، العزيز ، الذى يقهر ولا يقهر { الحميد } أى المحمود فى جيمع شئونه .
والمفعول الأول ليرى قوله : { الذي أُنزِلَ } . . والمفعول الثانى " الحق " و " هو " ضمير فصل متوسط بين المفعولين و " يهدى " معطوف على المفعول الثانى من باب عطف الفعل على الاسم لتأويله به ، أى : يرونه حقا وهاديا .
وعبر - سبحانه - عن إيمان أهل العلم بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَيَرَى } ، للإِشعار بأنهم قد آمنوا هذا الإِيمان الجازم عن إدراك ومشاهدة ويقين ، وأنهم قد صاروا لا يشكون فى كون هذا المُنَزَّل عليه من ربه ، هو الحق الهادى إلى الصراط المستقيم .
وفى وصفهم بقوله : { أُوتُواْ العلم } ثناء عظيم عليهم ، لأنهم انتفعوا بعلمهم وسخروه لخدمة الحق ، وللشهادة له بأنه حق ، ويهدى إلى السعادة الدينية والدنيوية والأخروية .
وهكذا العلماء العاملون بمقتضى علمهم النافع . يكونون أنصارا للحق والهدى فى كل زمان ومكان .
{ ويرى الذين أتوا العلم } ويعلم أولو العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة أو من مسلمي أهل الكتاب . { الذي أنزل إليك من ربك } القرآن . { هو الحق } ومن رفع { الحق } جعل هو مبتدأ و { الحق } خبره والجملة ثاني مفعولي { يرى } ، وهو مرفوع مستأنف للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات . وقيل منصوب معطوف على { ليجزي } أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانا كما علموه الآن برهانا { ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويرى} ويعلم {الذين أوتوا العلم} بالله عز وجل، يعني مؤمني أهل الكتاب وهي قراءة ابن مسعود، "ويعلم الذين أوتوا الحكمة من قبل".
{الذي أنزل إليك} النبي صلى الله عليه وسلم {من ربك هو الحق} يعني القرآن.
{ويهدي إلى صراط} ويدعو إلى دين {العزيز} في ملكه {الحميد} في خلقه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أثبت ذلك في كتاب مبين، ليجزي الذين آمنوا، والذين سعوا في آياتنا ما قد بين لهم، وليرى الذين أوتوا العلم، فيرى في موضع نصب عطفا به على قوله:"يَجزي"، في قوله: "لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُوا". وعنى بالذين أوتوا العلم: مسلمة أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، ونظرائه الذين قد قرأوا كتب الله التي أُنزلت قبل الفرقان، فقال تعالى ذكره: وليرى هؤلاء الذين أوتوا العلم بكتاب الله الذي هو التوراة، الكتاب الذي أُنزل إليك يا محمد من ربك هو الحقّ.
وقيل: عني بالذين أوتوا العلم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وقوله: "وَيهْدِي إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ "يقول: ويرشد من اتبعه، وعمل بما فيه إلى سبيل الله العزيز في انتقامه من أعدائه، الحميد عند خلقه، فأياديه عندهم، ونعمه لديهم. وإنما يعني أن الكتاب الذي أُنزل على محمد يهدي إلى الإسلام.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإيتاء العلم اعطاؤه إما بخلق العلم أو بنصب الأدلة المسببة له، فهو لطف الله تعالى لهم بما أداهم إلى العلم.
"صراط العزيز الحميد" القادر الذي لا يغالب، والحميد يعني المحمود على جميع أفعاله، وهو الله تعالى.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
والصحيح أن الآية في الذين آمنوا بالنبي من أهل مكة وغيرهم، وهو بمكة؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن سلام وأشباهه إنما آمنوا بالمدينة.
لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سعيه باطل فإن من أوتي علما لا يغتر بتكذيبه ويعلم أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم حق وصدق، وقوله: {هو الحق} يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك، وأما قول المكذب فباطل، بخلاف ما إذا تنازع خصمان، والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقا في المعنى، وقوله تعالى: {ويهدى إلى صراط العزيز الحميد} يحتمل أن يكون بيانا لكونه هو الحق فإنه هاد إلى هذا الصراط، ويحتمل أن يكون بيانا لفائدة أخرى، وهي أنه مع كونه حقا هاديا والحق واجب القبول فكيف إذا كان فيه فائدة في الاستقبال وهي الوصول إلى الله، وقوله: {العزيز الحميد} يفيد رغبة ورهبة، فإنه إذا كان عزيزا يكون ذا انتقام ينتقم من الذي يسعى في التكذيب، وإذا كان حميدا يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحا، فإن قيل كيف قدم الصفة التي للهيبة على الصفة التي للرحمة مع أنك أبدا تسعى في بيان تقديم جانب الرحمة؟ نقول كونه عزيزا تام الهيبة شديد الانتقام يقوي جانب الرغبة لأن رضا الجبار العزيز أعز وأكرم من رضا من لا يكون كذلك، فالعزة كما تخوف ترجى أيضا، وكما ترغب عن التكذيب ترغب في التصديق ليحصل القرب من العزيز.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذم الكفرة، وعجب منهم في إنكارهم الساعة في قوله: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} و أقام الدليل على إتيانها، وبين أنه لا يجوز في الحكمة غيره ليحصل العدل والفضل في جزاء أهل الشر وأولي الفضل، عطف على ذلك مدح المؤمنين فقال واصفاً لهم بالعلم، إعلاماً بأن الذي أورث الكفرة التكذيب الجهل: {ويرى الذين} معبراً بالرؤية والمضارع إشارة إلى أنهم في علمهم غير شاكين، بل هم كالشاهدين لكل ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وبالمضارع إلى تجدد علمهم مترقين في رتبه على الدوام مقابلة لجلافة أولئك في ثباتهم على الباطل الذي أشار إليه بالماضي، وأشار إلى أن علمهم لدني بقوله: {أوتوا العلم} أي قذفه الله في قلوبهم فصاروا مشاهدين لمضامينه لو كشف الغطاء ما ازدادوا يقيناً سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو من أهل الكتاب {الذي أنزل إليك} أي كله من أمر الساعة وغيره {من ربك} أي المحسن إليك بإنزاله، وأتي بضمير الفصل تفخيماً للأمر وتنصيصاً على أن ما بعده مفعول "أوتوا "الثاني فقال: {هو الحق} أي لا غيره من الكلام {ويهدي} أي يجدد على مدى الزمان هداية من اتبعه {إلى صراط} أي طريق واضح واسع.
ولما كانت هذه السورة مكية، وكان الكفار فيها مستظهرين والمؤمنون قليلين خائفين، والعرب يذمونهم بمخالفة قومهم ودين آبائهم ونحو ذلك من الخرافات التي حاصلها الاستدلال على الحق المزعوم بالرجال قال: {العزيز الحميد} أي الذي من سلك طريقه -وهو الإسلام- عز وحمده ربه فحمده كل شيء وإن تمالأ عليه الخلق أجمعون، فإنه سبحانه لا بد أن يتجلى للفصل بين العباد، بالإشقاء والإسعاد على قدر الاستعداد.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وقال العالمون من أهل الكتاب ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يأتي من بعدهم من أمته: إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتا لقيام الساعة، ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر- هو الحق الذي لا شك فيه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة، وعلامة لهم، وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما جاء به الرسول، وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه، كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة على ما جاء به الرسول، احتج اللّه بهم على المكذبين المعاندين، كما في هذه الآية وغيرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
شهادة أولي العلم بالحق الذي مع الرسول عليه السلام:
وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم -وهي غيب من غيب الله- وتأكيد الله لمجيئها -وهو عالم الغيب- وتبليغ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن (الذين أوتوا العلم) يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد:
(ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد)..
وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب، الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق، وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد.
ومجال الآية أكبر وأشمل، فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان، من أي جيل ومن أي قبيل، يرون هذا متى صح علمهم واستقام؛ واستحق أن يوصف بأنه (العلم)! والقرآن كتاب مفتوح للأجيال. وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح. وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله. وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل.
(ويهدي إلى صراط العزيز الحميد)..
وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود؛ واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه. وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها، ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه.
يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه؛ ومكان هذا الإنسان منه، ودوره فيه؛ وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله -وهو معها- في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه؛ وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى باريء الوجود.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير، وإقامته على أسس سليمة، متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية؛ بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه، والاستعانة بها، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية. ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق -أفراداً وجماعات- مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون! ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه.. كل ذلك في بساطة ويسر ولين.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة، متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء، وسائر الخلائق؛ فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته. وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير.
إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط. الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط، العارف بطبيعة هذا وذاك. وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق. فكيف بمنشئ الطريق ومنشئ السالك في الطريق؟!
هنا تثبيت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن ربه -عز وجل- يقول له: يا محمد لا تيأس من هؤلاء الذين سَعَوْا في آياتنا معاجزين ولا تهتم، فإن الذي جعل من الكفرة مَنْ يسعون بالفساد ويُعاجزون خالقهم جعل أيضاً لك مَنْ ينصر دعوتك ويؤيدك من الذين يؤمنون بآيات الله، ويعلمون أنها الحق، وأن مَا يقوله هؤلاء من الهراء، وهو الباطل.
فكما أثبتَ لهم سَعْياً في الباطل ومعاجزة أثبتَ للمؤمنين العلم بآيات الله وتصديقها والاعتراف بأنها الحق، وطمأن رسول الله أن هؤلاء لن يفسدوا عليك أمرك، ولن يُطفئوا نور الله، كما قال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ} [الصف: 8].
وقال: {هُوَ الَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
فقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ..} أي: يشهدون لك بأنك على الحق، وأنك جِئتَهم بمنهج هو الحق، ويهدي إلى صراط مستقيم. إذن: فضَعْ هؤلاء قبالة الذين سعَوْا في آياتنا معاجزين، واعقد مقارنة بين هؤلاء وهؤلاء.
فالكفار الذين سَعَوْا في آياتنا بالفساد مُجرَّدون عن معونة القدرة، بل إن القدرة ضدهم ولهم بالمرصاد، أما الذين أوتوا العلم وشهدوا لرسول الله، فهم مُؤيِّدون للقدرة الإلهية، والقدرة معهم تساندهم، فأيُّ الكِفَّتين أرجح؟
ومعنى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} [سبأ: 6] الذين أوتول العلم من المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم الذين صدَّقوه وصدَّقوا معجزته ورسالته. أو: الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب اليهود أو النصارى، فالمنصفون منهم يعلمون صِدْق رسول الله، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم وهم الذين ذهبوا إلى يثرب قبل بعثة رسول الله ينتظرون بعثته، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا يقولون: لقد أظلّ زمن نبي جديد نتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم
{فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ..} [البقرة: 89].
لذلك يقولون القرآن في جدال الكافرين:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ..} [الرعد: 43] أي: رداً عليهم
{كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ..} [الرعد: 43] أي: الله الذي أرسلني بالمعجزة
{وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] أي: من اليهود والنصارى، أهل التوراة والإنجيل.
والعلم: هو كل قضية مجزوم بها، وهي واقعة وعليها دليل، وغير ذلك لا يعتبر عِلْماً، فالقضية إنْ لم يكُنْ مجزوماً بها فلا تدخل في العلم، إنما هي في الشك، أو في الظن، أو في الوهم، فإنْ كانت القضية مجزوماً بها، لكن ليس لها واقع، فهذا هو الجهل.
لذلك سبق أن قلْنا: ليس الجاهل هو الذي لا يعلم، إنما الجاهل الذي يعلم قضية منافية للواقع، أما الذي لا يعلم فهو الأميُّ خالي الذِّهْن تماماً؛ لذلك يقبل منك ما تقول، على خلاف الجاهل الذي ينبغي عليك أنْ تثبت له خطأ قضيته أولاً، ثم تقنعه بما تريد.
فإنْ كانت القضية مجزوماً بها ولها واقع، لكن لا تستطيع أنْ تُدلِّل عليها، فهي تقليد...
والعلم وإنْ كان أنواعاً كثيرة، إلا أنه يمكن حَصْره في العلم الشرعي والعلم الكوني: العلم الشرعي أو علم الشرع، ومصدره السماء يُبلِّغه رسول بمعجزة، ولا دَخْلَ لأحد فيه، وليس للبشر في علم الشرع إلا النقل والرواية، والبلاغ من الرسول، وهذا العلم هو الذي يُحدِّد لنا الحلال والحرام، وقد جاء العلم الشرعي لا ليتدخل في العلم الكوني، إنما جاء ليضبط الأهواء المختلفة؛ لذلك يختلف الناس في هذا العلم.
أما العلم الكوني فهو العلم الذي يبحث في أجناس الوجود كلها: في الجماد، وفي النبات، وفي الحيوان، وفي الإنسان، فهذا العلم يقوم على نشاط العقل، ولا يختلف الناس فيه؛ لأنه مادىٌّ يعتمد على البحث والتجربة والملاحظة؛ لذلك يتنافس فيه الناس، وربما سرقوه بعضهم من بعض.
وبهذا العلم الكوني يُرَقِّي الإنسان حياته، فالخالق عز وجل أعطاك كل مُقوِّمات الحياة وضرورياتها، وعليك إنْ أردتَ رفاهية الحياة أن تُعمِل عقلك وفكرك في معطيات الكون من حولك لتكتشف ما لله تعالى في كونه من أسرار وآيات تُرقِّي بها حياتك...
فمعنى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ..} أي: العلم الشرعي، وهم الذين آمنوا بك وصدَّقوك بالمعجزة على أنك رسول الله، وأن ما جئتَ به هو الحق {الَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ..}.
وكذلك الذين أوتوا العلم الكوني لهم دَوْر في تصديق الرسل وتأييدهم بما أوتوا من العلم الكوني الذي يدلُّ على الله، وإذا كان القرآن كتابَ الله المقروء، فالكون بأجناسه المختلفة كتاب الله المشَاهَد المنظور.
واقرأ إنْ شئت قول الحق سبحانه وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا..} [فاطر: 27] هذا هو النبات
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] وهذا هو الجماد
{وَمِنَ النَّاسِ..} [فاطر: 28] الإنسان
{وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ..} [فاطر: 28] أي: الحيوان
{مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ..} [فاطر: 28].
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ..} [فاطر: 28] أيّ علماء؟ علماء الكون الذين يبحثون في أجناسه المختلفة وقوانينه العلمية والاجتماعية والصحية.. إلخ.
وهؤلاء العلماء يخشوْنَ الله؛ لأنهم يشاهدون أسراره في كونه، ويُطْلِعون الناس عليها، فهم جُنْد من جنود الدعوة إنْ آمنوا يؤيدون قدرةَ الله، بل ويستشهد علماء الشرع بكلامهم، ويُظْهِرون قدرة الله في الكون من خلال نظرياتهم العلمية، إذن: للعلم الكوني مهمة كبرى في مجال الدعوة إلى الله.
لكن، مَنْ الذي يرى مِنْ هؤلاء -علماء الشرع، أو علماء الكون- أن الذي جاء به محمد هو الحق؟
إنْ قُلْنا علماء الشرع فقد شهدوا لرسول الله وصدَّقُوه، سواء من المؤمنين برسالته، أم من علماء أهل الكتاب، وإنْ قلنا علماء الكون فقد شهدوا هم أيضاً لرسول الله وأيَّدوه بما لديهم من أسرار قدرة الله...
فقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ..} أي: العلم الشرعي المنزَّل من أعلى، أو العلم الكوني القائم على البحث والمشاهدة. وقوله {أُوتُواْ الْعِلْمَ..} سواء كان عِلْماً شرعياً، أو علما كونياً يدل على أن العلم إيتاءٌ، فليس هناك عالم بذاته، إنما العلم إيتاء من الله حتى فى علم الكونيات لذلك لم يقل علموا، إنما {أُوتُواْ الْعِلْمَ..}...
ونلحظ في أسلوب الآية أن المفعول الثانى للفعل (يرى) جاء على صورة الضمير المنفصل {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ..} ولم يقل الحق فقط إنما {هُوَ الْحَقَّ..} وهذا الضمير المنفصل يعني أن غيره ليس حقاً، فالحق هو الذي أُنزِل على رسول، وما عداه ليس حقاً، وكأنها خاصية لم تُعْط إلا له صلى الله عليه وسلم.
ومثلها قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم:
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] فلم يَقُلْ: الذي خلقني يهديني؛ لأنها تحتمل أن يهديك غيره، إنما {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] قصرت الهداية عليه سبحانه وتعالى...
إذن: قوله تعالى: {هُوَ الْحَقَّ..} دلَّتْ على أن الحق واحد، هو ما أنزل الله، وما عداه باطل...
والحق هو: الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يُنكر، وكيف تنكر الحق وأنت حين تريد أنْ تؤيد نفسك في شيء تقول: هذا حقي يعني لي ولا ينازعني فيه أحد، فالدَّعْوى التي تقيمها أن هذا حقك.
والحق إلى جانب أنه أمر ثابت فهو ينفعك، فله إذن ميزتان أو حجتان: الأولى أنه الحق الثابت وغيره باطل، والأخرى أنه يعود عليك نفعه؛ لذلك قال تعالى بعدها: {وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، فإذا لم تقبل الحق لذاته وتتعصب له، فاقبله لما يعود عليك من نفعه، فهذان الأمران هما من حيثيات التمسك بالحق.
ومعنى {الْعَزِيزِ..} هو الذي لا يُغلب ولا يُقهر، ومنه قولنا: عزَّ علىَّ كذا يعني: لم أقدر عليه، وفلان عزيز يعني لا يقهره أحد، فصفة العزة صفة ترهيب، فحين تُعرِض عن هذا الحق فاعلم أنك تعصي عزيزاً لا يُقهر، يغلب ولا يُغلب.
ثم يتبعها سبحانه بصفة من صفات الترغيب {الْحَمِيدِ} بمعنى المحمود على ما يُعطى من النِّعَم، فهي تُرغِّبك في المزيد من نِعَم الله.