ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، وعن مظاهر قدرة الله - تعالى - وعن تلقين الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يرد به على المشركين . وعن أحوال الناس عند النفخ فى الصور . . قال - تعالى - :
{ وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ . . . } .
قوله - : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة . . } بيان لحالة الكافرين يوم القيامة ، ولما تكون عليه هيئتهم من خزى وهوان .
أى : وفى يوم القيامة إذا نظرت - أيها الرسول الكريم - أو - أيها العاقل - إلى وجوه الذين كذبوا على الله ، بأن شركوا معه فى العبادة آلهة أخرى ، أو جعلوا له صاحبة أو ولدا . . إذا نظرت إليها رأيتها مسودة مكفهرة بسبب ما أحاط بهم من عذاب ، وما شاهدوه من أهوال .
وقوله : { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } جملة من مبتدأ وخبر ، وهى فى محل نصب على الحال من الذين كذبوا . . والاستفهام فى قوله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِين } للتقرير والمثوى : المكان والمقام .
يقال : ثوى فلان بالمكان وأثوى فيه ، إذا أقام به ، فهو ثاو ومنه قوله - تعالى - :
{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ } أى : أليس فى جهنم مكانا ومقرا لإِهانة المتكبرين وإذلالهم ، بسبب تطاولهم على غيرهم ، وتكذيبهم لآيات الله ؟ بلى إن بها ما يجعلهم يذوقون العذاب الأليم .
يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه ، وتبيض فيه وجوه ، تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف ، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، قال تعالى هاهنا : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ } أي : في دعواهم له شريكا وولدا { وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } أي : بكذبهم وافترائهم .
وقوله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ } أي : أليست جهنم كافية لها{[25239]} سجنا وموئلا لهم فيها [ دار ] {[25240]} الخزي والهوان ، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عيسى بن أبي عيسى الخياط ، عن عمرو بن شعيب{[25241]} ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار ، حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له بولس ، من نار الأنيار ، ويسقون عصارة أهل النار ، ومن طينة الخَبَال " {[25242]} .
{ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله } بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد . { وجوههم مسودة } بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل ، والجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر واكتفى فيها بالضمير عن الواو . { أليس في جهنم مثوى } مقام . { للمتكبرين } عن الإيمان والطاعة وهو تقرير لأنهم يرون كذلك .
عطف على إحدى الجمل المتقدمة المتعلقة بعذاب المشركين في الدنيا والآخرة ، والأحسن أن يكون عطفاً على جملة { والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا } [ الزمر : 51 ] ، أي في الدنيا كما أصاب الذين من قبلهم ويوم القيامة تَسودّ وجوههم . فيجوز أن يكون اسوداد الوجوه حقيقة جعله الله علامة لهم وجعل بقية الناس بخلافهم . وقد جعل الله اسوداد الوجوه يوم القيامة علامة على سوء المصير كما جعل بياضها علامة على حسن المصير قال تعالى : { يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللَّه هم فيها خالدون } في سورة آل عمران ( 106 ، 107 ) . ويجوز أن يكون ابيضاض الوجوه مستعملاً في النضرة والبهجة قال تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } [ القيامة : 22 ] ، وقال حسان بن ثابت
: . . . بِيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم
ويقولون في الذي يخصل خصلة يفتخر بها قومُه : بيَّضْتَ وجوهنا . والخطاب في قوله : { تَرَى } لغير معين .
وجملة { وجوههم مُسْوَدة } مبتدأٌ وخبر ، وموقع الجملة موقع الحال من { الذين كذبوا على الله } ، لأن الرؤية هنا بصرية لا ينصب فعلها مفعولين . ولا يلزم اقتران جملة الحال الاسمية بالواو .
و { الذين كذبوا على الله } : هم الذين نسبوا إليه ما هو منزه عنه من الشريك وغير ذلك من تكاذيب الشرك ، فالذين كذبوا على الله هم الذين ظلموا الذين ذُكروا في قوله : { والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا } [ الزمر : 51 ] ، وصفوا أولاً بالظلم ثم وصفوا بالكذب على الله في حكاية أخرى فليس قوله : { الذين كذبوا على الله } إظهاراً في مقام الإِضمار .
ويدخل في { الذين كذبوا على الله } كل من نسَب إلى الله صفة لا دليل له فيها ، ومن شرع شيئاً فزعم أن الله شرعه متعمداً قاصداً ترويجه للقبول بدون دليل ، فيدخل أهل الضلال الذين اختلقوا صفات لله أو نسبوا إليه تشريعاً ، ولا يدخل أهل الاجتهاد المُخطِئون في الأدلة سواء في الفروع بالاتفاق وفي الأصول على ما نختاره إذا استفرغوا الجهود . ونسبة شيءٍ إلى الله أمرها خطير ، ولذلك قال أيمتنا : إن الحكم المقيس غيرَ المنصوص يجوز أن يقال هُو دينُ الله ولا يجوز أن يقال : قاله الله .
ولذلك فجملة { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } واقعة موقع الاستئناف البياني لجملة { ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } على كلا المعنيين لأن السامع يسأل عن سبب اسوداد الوجوه فيجاب بأن في جهنم مثواهم يعني لأن السواد يناسب ما سيلفح وجوههم من مسّ النار فأجيب بطريقة الاستفهام التقريري بتنزيل السائل المقدَّرِ منزلة من يعلم أن مثواهم جهنم فلا يليق به أن يغفل عن مناسبة سواد وجوههم ، لمصيرهم إلى النار ، فإن للدخائل عَنَاوينَها ، وهذا الاستفهام كما في قوله تعالى : { ليقولوا أهؤلاء من اللَّه عليهم من بيننا أليس اللَّه بأعلم بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] ، وكقول أبي مسعود الأنصاري للمغيرة بن شعبة حين كان أمير الكوفة وقد أخر الصلاة يوماً « ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلّى فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكقول الحجاج في خطبته في أهل الكوفة « ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر » الخ .
والتكبر : شدة الكبر ، ومن أوصاف الله تعالى المتكبر ، والكِبر : إظهار المرء التعاظم على غيره لأنه يُعدّ نفسه عظيماً . وتعريف المتكبرين هنا للاستغراق ، وأصحاب التكبر مراتب أقواها الشرك ، قال تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] وهو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه حبة خردل من إيمان » أخرجه مسلم عن ابن مسعود ، ألا ترى أنه قابله بالإِيمان ، ودونه مراتب كثيرة متفاوتة في قوة حقيقة ماهية التكبر ، وكلها مذمومة . وما يدور على الألسن : أن الكبر على أهل الكبر عبادة ، فليس بصحيح .
وفي وصفهم بالمتكبرين إيماء إلى أن عقابهم بتسويد وجوههم كان مناسباً لكبريائهم لأن المتكبر إذا كان سيّىء الوجه انكسرت كبرياؤه لأن الكبرياء تضعف بمقدار شعور صاحبها بمعرفة الناس نقائصه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر بما لهم في الآخرة، فقال سبحانه: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله} بأن معه شريكا.
{وجوههم مسودة أليس} لهذا المكذب بتوحيد الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَيَوْمَ القِيامَةِ تَرَى" يا محمد هؤلاء "الّذِينَ كَذَبُوا على اللّهِ "من قومك فزعموا أن له ولدا، وأن له شريكا، وعبدوا آلهة من دونه "وُجُوهُهُمْ مُسْوَدّةٌ"...
وقوله: "ألَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى للْمُتَكَبّرِينَ" يقول: أليس في جهنم مأوى ومسكن لمن تكبر على الله، فامتنع من توحيده، والانتهاء إلى طاعته فيما أمره ونهاه عنه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وجوههم مسودة} جملة في موضع الحال، وظاهر الآية: أن لون وجوههم يتغير ويسود حقيقة، ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن أن يراد به وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم...
الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم، والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد، وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله، وأقول إن الجهل ظلمة، والظلمة تتخيل كأنها سواد فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم، وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه، وتبيض فيه وجوه، تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة...
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: أليست جهنم كافية لها سجنا وموئلا لهم فيها [دار] الخزي والهوان، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قد تعمد الكذب عند مس العذاب في عدم البيان والوقت القابل، قال تعالى محذراً من حاله وحال أمثاله، ولفت القول إلى من لا يفهمه حق فهمه غيره تسلية له وزيادة في التخويف لغيره: {ويوم القيامة} أي الذي لا يصح في الحكمة تركه.
{الذين كذبوا} وزاد في تقبيح حالهم في اجترائهم بلفت القول إلى الاسم الأعظم فقال: {على الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال بأن وصفوه بما لا يليق به وهو منزه عنه من أنه فعل ما لا يليق بالحكمة من التكليف مع عدم البيان، ومن خلق الخلق يعدو بعضكم على بعض من غير حساب يقع فيه الإنصاف بين الظالم والمظلوم، أو ادعوا له شريكاً أو نحو ذلك...
أليس ذلك زاجراً عن مطلق الكذب فكيف بالكذب على الله الذي جهنم سجنه فكيف بالمتكبرين عليه.
{أليس في جهنم} أي التي تلقى فيها بالتجهم والعبوسة.
{مثوى} أي منزل {للمتكبرين} الذي تكبروا على اتباع أمر الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على إحدى الجمل المتقدمة المتعلقة بعذاب المشركين في الدنيا والآخرة، والأحسن أن يكون عطفاً على جملة {والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا} [الزمر: 51]، أي في الدنيا كما أصاب الذين من قبلهم ويوم القيامة تَسودّ وجوههم، فيجوز أن يكون اسوداد الوجوه حقيقة جعله الله علامة لهم وجعل بقية الناس بخلافهم؛ قال تعالى: {يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللَّه هم فيها خالدون} في سورة آل عمران
{الذين كذبوا على الله}... يدخل في {الذين كذبوا على الله} كل من نسَب إلى الله صفة لا دليل له فيها، ومن شرع شيئاً فزعم أن الله شرعه متعمداً قاصداً ترويجه للقبول بدون دليل.
ونسبة شيءٍ إلى الله أمرها خطير، ولذلك قال أيمتنا: إن الحكم المقيس غيرَ المنصوص يجوز أن يقال هُو دينُ الله ولا يجوز أن يقال: قاله الله، ولذلك فجملة
{أليس في جهنم مثوى للمتكبرين} واقعة موقع الاستئناف البياني لجملة {ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} على كلا المعنيين؛ لأن السامع يسأل عن سبب اسوداد الوجوه فيجاب بأن في جهنم مثواهم؛ يعني لأن السواد يناسب ما سيلفح وجوههم من مسّ النار، فأجيب بطريقة الاستفهام التقريري بتنزيل السائل المقدَّرِ منزلة من يعلم أن مثواهم جهنم فلا يليق به أن يغفل عن مناسبة سواد وجوههم، لمصيرهم إلى النار، فإن للدخائل عَنَاوينَها،... وتعريف المتكبرين هنا للاستغراق، وأصحاب التكبر مراتب أقواها الشرك...
وفي وصفهم بالمتكبرين إيماء إلى أن عقابهم بتسويد وجوههم كان مناسباً لكبريائهم لأن المتكبر إذا كان سيئ الوجه انكسرت كبرياؤه؛ لأن الكبرياء تضعف بمقدار شعور صاحبها بمعرفة الناس نقائصه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
مما تجب ملاحظته في هذا المقام ما ورد فيه من التأكيد في وصف أهل النار بصفة "التكبر"، فقد وصفوا به في هذا الربع مرتين متتاليتين، المرة الأولى في قوله تعالى: {أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}، والمرة الثانية في قوله تعالى: {فبيس مثوى المتكبرين}. والسر في ذلك أن خصلة "الكبر "وممارسة" التكبر "- مما يعتاده ضعفاء النفوس وسخفاء العقول- هي أكبر سبب في ضلال الضالين، وسخرية الساخرين، وأكبر حافز للكافرين والفاسقين على تحدي الحق المبين، ومن لم تصبه عاهة" الكبر "كان أسرع إلى قبول النصيحة فور سماعها، وإلى اتباع الهداية بمجرد إشراق نورها...
قوله سبحانه: {الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 60] أي: في قولهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر: 57] وفي غيرها؛ لأن الله هداك ودلَّكَ وأرشدك حين بعث لك الرسل مُؤيَّدةً بالمعجزات، وأنزل لك الكتب وبيَّن لك الحلال والحرام، وكذبوا في غير ذلك كالذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] وكالذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] ومثلهم الذين ادعوا أن مع الله آلهة أخرى.
كل هؤلاء كذبوا على الله؛ لذلك يأتون يوم القيامة {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] نعم مسودة لأنهم الآن يواجهون الحق الذي كذبوا عليه، فلابدَّ أنْ تكون وجوههم مُسْودة عليها غبرة ترهقها قترة مما فعلوه.
وهذا ليس ذماً للسواد في ذاته، لأن السواد خَلْق من خَلْق الله لا يُذَمُّ في ذاته، فقد ترى الرجل أبيض اللون، لكن تعلوه قتامة وقتر، فتجد وجهه مظلماً والعياذ بالله، وهذا أثر المعاصي والذنوب على الوجه في الدنيا قبل الآخرة.
وترى العبد الزنجي كأن وجهه زبيبة، لكن يعلوه ضياء وإِشراق، وتجد على وجهه علامات الصلاح، وكأن وجهه يتلألأ نوراً ولا تزهد أبداً في النظر إليه؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38-42].
إذن: الوصف لا يُمدح ولا يُذم لذاته، والسواد والبياض هنا ليس هو السواد كما نعرفه في الدنيا فهي عملية نسبية، وكنت أرى بعض الصالحين وكأن في وجهه كشافاً يُضيء، وتبدو الفرحة على وجهه وكأن نورَ اليقين وبشاشة الإيمان تعدَّتْ داخله ونضحَتْ على وجهه نوراً ونضارة، وهو صاحب بَشْرة سوداء مثل الأبنوس.
ومثل هذا نجده في قوله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] فهل يُذمّ صوت الحمير إنْ صدر منها؟ لا لأن الخالق خلقه على هذه الصورة، وعُلو صوت الحمار لحكمة لأنه قد يختفي مثلاً وراء جبل أو تَلٍّ عالٍ، فلا يهتدي إليه صاحبه إلا من خلال صوته، لكن يُذمُّ عُلو الصوت في الإنسان، فهو أنكر الأصوات إنْ صدر منه ما يشبه صوت الحمار.
كذلك في: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] فليس هذا ذماً للحمار، لأن الحمار في الحمل يؤدي مهمة وهي الحمل فحسْب، فهو يحمل حمله دون تبرُّم ودون اعتراض، لكن يُذمُّ الإنسان إنْ تشبَّه بالحمار فارتضى لنفسه أنْ يحمل فقط دون أنْ يعي ما يحمله، ودون أنْ يفهم، وأنْ يُطبق ما علم.
وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] هذا استفهام منفي نجيب عليه فنقول: بلى يا رب، يعني: لا بل لهم مثوى في جهنم، والمعنى: ماذا يظنون؟ أيظنون أنه لا محلَّ لهم فيها ولا مكان، إن مكانهم جاهز ومُعَدٌّ بأسمائهم ينتظرهم ويشتاق إليهم، فليس في جهنم أزمة مساكن كما قلنا.
فالحق سبحانه خلق أزلاً الخلق، وجعل لكل واحد منهم مكاناً في الجنة على اعتبار أن الخلق جميعاً سيؤمنون بالله، وجعل لكل واحد منهم مكاناً في النار على اعتبار أن الخلْق سيكفرون، فإذا ما دخل أهل الجنةِ الجنةَ، ودخل أهلُ النارِ النارَ وُزِّعَتْ أماكن أهل النار المعدة لهم لو آمنوا على أهل الجنة، كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
ومعنى (مَثْوَى) أي: مكان إيواء وإقامة دائمة {لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم، وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد أعمال وأفكار الإنسان، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا، وأعمالهم وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضاً، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودّة ومظلمة. وبعبارة أخرى فإنّ ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة، ولون الوجه يكون بلون القلب فالذي قلبه أسود ومظلم، يكون وجهه مظلماً وأسود، والذي قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعاً بالنور...