مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌۚ أَلَيۡسَ فِي جَهَنَّمَ مَثۡوٗى لِّلۡمُتَكَبِّرِينَ} (60)

{ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين * وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون . }

اعلم أن هذا نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد ، أما الوعيد فقوله تعالى : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } وفيه بحثان : ( أحدهما ) أن هذا التكذيب كيف هو ؟ ( والثاني ) أن هذا السواد كيف هو ؟

البحث الأول : عن حقيقة هذا التكذيب ، فنقول : المشهور أن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، ومنهم من قال هذا القدر لا يكون كذبا بل الشرط في كونه كذبا أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه ، إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية :

قال الكعبي : ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله { لو أن الله هداني } يعني أنه ما هداني بل أضلني ، فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه { ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } وجب أن يكون هذا عائدا إلى ذلك الكلام المتقدم ، ثم روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما بال أقوام يصلون ويقرؤون القرآن ، يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد ، وهم كذبة على الله ، والله مسود وجوههم » واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية : { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون ، والتكبر لا يليق بمن يقول أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد ، وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى ، أما الذين يقولون إن الله يريد شيئا وأنا أريد بضده ، فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله ، فالتكبر بهذا القائل أليق ، فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد ، ومن الناس من قال إن هذا الوعيد مختص باليهود والنصارى ، ومنهم من قال إنه مختص بمشركي العرب ، قال القاضي يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا ، فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه ، فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية ، لأنهم كذبوا على الله ، فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو اليهود والنصارى لا يجوز ، واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي لزمه تكفير الأمة ، لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى ، ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى ، ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما ، فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء ، مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول ، ومثال هذا كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات ، وكانوا يقولون إن الله تعالى حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا ، وكان قائله عالما بأنه كذب وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل يكون مناسبا ، أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ يبعد إلحاق هذا الوعيد به .

البحث الثاني : الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم ، والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد ، وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله ، وأقول إن الجهل ظلمة ، والظلمة تتخيل كأنها سواد فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم ، وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة .