{ ليعلم } قرأ يعقوب : { ليعلم } بضم الياء أي ليعلم الناس ، { أن } الرسل ، { قد أبلغوا } وقرأ الآخرون بفتح الياء أي : { ليعلم } الرسول أن الملائكة قد أبلغوا ، { رسالات ربهم وأحاط بما لديهم } أي : علم الله ما عند الرسل فلم يخف عليه شيء ، { وأحصى كل شيء عدداً } قال ابن عباس : أحصى ما خلق ، وعرف عدد ما خلق ، فلم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل . ونصب { عدداً } على الحال ، وإن شئت على المصدر ، أي عد عدداً .
واللام فى قوله - تعالى - : { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ . . } متعلقة بقوله { يَسْلُكُ }
والضمير فى { يعلم } يعود إلى الله - تعالى - ، والمراد بالعلم : علم المشاهدة الذى يترتب عليه الجزاء ، أى : أطلع الله - تعالى - من ارتضاهم على بعض غيوبه ، وحرسهم من وصول الشياطين إلى هذا الذى أظهرهم عليه من غيوب . . ليعلم - تعالى - علم مشاهدة يترتب عليه الجزاء ، أن الرسل قد أبلغو رسالته - سبحانه - إلى خلقه ، وأنه - تعالى - قد { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أى : أحاط علمه - تعالى - بكل ما لدى الرسل وغيرهم من أقوال وأفعال ، { وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أى : وأحصى كل شئ فى هذا الكون إحصاء تاما ، وعلما كاملا .
قال الشوكانى : قوله : { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ . . . } اللام متعلقة بيسلك ، والمراد به العلم المتعلق بالإِبلاغ الموجود بالفعل ، و " أن " هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، والخبر الجملة ، والرسالات عبارة عن الغيب الذى أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول . .
وقال قتادة : ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو ، وفيه حذف تتعلق به اللام ، أى : أخبرناه صلى الله عليه وسلم بحفظنا الوحى ، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ بالحق والصدق .
وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم . .
ويبدو لنا أن عودة الضمير فى " ليعلم " إلى الله - تعالى - هو الأظهر ، أى : ليعلم الله - تعالى - أن رسله قد أبلغوا رسالاته علم مشاهدة كما علمه غيبا ، لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع . .
وهكذا ساقت لنا سورة " الجن " الكثير من الحقائق التى تتعلق بإصلاح العقائد والأخلاق والسلوك والأفكار التى طغى كثير منها على العقول والأفهام . .
وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } هذه كقوله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [ البقرة : 255 ] وهكذا قال هاهنا : إنه يعلم الغيب والشهادة ، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه ؛ ولهذا قال :
{ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } وهذا يعم الرسول الملكي والبشري .
ثم قال : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } أي : يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ، ويساوقونه على ما معه من وحي الله ؛ ولهذا قال : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله : { لِيَعْلَمَ } إلى من يعود ؟ فقيل : إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي{[29395]} عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل ،
{ لِيَعْلَمَ } محمد صلى الله عليه وسلم { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي{[29396]} به . وهكذا رواه الضحاك ، والسدي ، ويزيد بن أبي حبيب .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن قتادة : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله ، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها . وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة . واختاره ابن جرير .
وقيل غير ذلك ، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان ، حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول ، ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم . وفي هذا نظر .
وقال البغوي : قرأ يعقوب : " ليُعلَم " بالضم ، أي : ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا .
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل ، وهو قول حكاه ابن الجوزي في " زاد المسير " {[29397]} ويكون المعنى في ذلك : أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ، ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي ؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [ البقرة : 143 ] وكقوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] إلى أمثال ذلك ، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ؛ ولهذا قال بعد هذا : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } .
وقوله تعالى : { ليعلم } قال قتادة معناه { ليعلم } محمد أن الرسل { قد أبلغوا رسالات ربهم } وحفظوا ومنع منهم . وقال سعيد بن جبير : معناه يعلم محمد أن الملائكة الحفظة ، الرصد النازلين بين يديه جبريل وخلفه { قد أبلغوا رسالات ربهم } . وقال مجاهد { ليعلم } من كذب وأشرك أن الرسل قد بلغت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا العلم لا يقع لهم إلا في الآخرة ، وقيل معناه { ليعلم } الله رسالته مبلغة خارجة إلى الوجود لأن علمه بكل شيء قد تقدم ، وقرأ الجمهور : «ليَعلم » بفتح الياء أي الله تعالى . وقرأ ابن عباس : «ليُعلم » بضم الياء ، وقرأ أبو حيوة : «رسالة ربهم » على التوحيد ، وقرأ ابن أبي عبلة : «وأحيط » على ما لم يسم فاعله ، وقوله تعالى : { وأحصى كل شيء } معناه كل شيء معدود ، وقوله تعالى : { ليعلم } الآية ، مضمنه أنه تعالى قد علم ذلك ، فعلى هذا الفعل المضمر انعطف { وأحاط } ، { وأحصى } والله المرشد للصواب بمنه وكرمه .
ويتعلق { ليعلم } بقوله : { يسلك } ، أي يفعل الله ذلك ليبلّغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسُل أبلغوا ما أوحي إليه كما بعثَه دون تغيير ، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعاً ومسبباً عن تبليغ الوحي كما أنزل الله ، جعل المُسَبب علّة وأقيم مقام السَّبب إيجازاً في الكلام لأن علم الله بذلك لا يكون إلاّ على وفق ما وقع ، وهذا كقول إياس بن قبيصة :
وأقبلتُ والخطّيُّ يخطِر بيننَا *** لأعلَمَ مَنْ جَبَانُها مِن شجاعها
أي ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلمَ ذلك . وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب ، وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها .
وجيء بضمير الإِفراد في قوله : { من بين يديه ومن خلفه } مراعاة للفظ { رَسول } ، ثم جيء له بضمير الجمع في قوله : { أن قد أبلغُوا } مراعاة لمعنى رسول وهو الجنس ، أي الرسل على طريقة قوله تعالى السابق آنفاً { فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً } [ الجن : 23 ] .
والمراد : ليَعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله وأدوا الأمانة علماً يترتب عليه جزاؤهم الجزيل .
وفهم من قوله : { أن قد أبلغوا رسالات ربهم } أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعثثِ والجزاء ، لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب ما يوعدون به أو بعده وذلك من علائق الجزاء والبعث .
ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلاً لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييداً لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإِصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب .
واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض أحوال الحكم الذي للمستثَنى منه ، بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص ، فليس قوله تعالى : { إلاّ من ارتضى من رسول } بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله ، وقد بين النوع المطلع عليه بقوله : { ليَعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
وقرأ رويس عن يعقوب { ليُعلم } بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول على أنّ { أنْ قد أبلغوا } نائب عن الفاعل ، والفاعل المحذوف حذف للعلم به ، أي ليعلَم الله أن قد أبلغوا .
الواو واو الحال أو اعتراضية لأن مضمونها تذييل لجملة { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } ، أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره ، وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك ، فقوله : { وأحاط بما لديهم } تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلمِه بتبليغهم ما أرسل إليهم ، وقوله : { وأحصى كل شيء عدداً } تعميم أشمل بعد تعميممٍ مَّا .
وعبر عن العلم بالإِحصاء على طريق الاستعارة تشبيهاً لعلم الأشياء بمعرفة الأعداد لأن معرفة الأعداد أقوى ، وقوله : { عدداً } ترشيح للاستعارة .
والعدد : بالفك اسم لمعدود وبالإدغام مصدر عَدّ ، فالمعنى هنا : وأحصى كل شيء معدوداً ، وهو نصب على الحال ، بخلاف قوله تعالى : { وعدَّهم عَدَّا } [ مريم : 94 ] . وفرق العرب بين المصدر والمفعول لأن المفعول أوغل في الاسمية من المصدر فهو أبعد عن الإِدغام لأن الأصل في الإِدغام للأفعال .