قوله تعالى : { وإذ واعدنا } . هو من المفاعلة التي تكون من الواحد كقولهم : عافاك الله ، وعاقبت اللص ، وطارقت النعل . وقال الزجاج : كان من الله الأمر ومن موسى القبول ، فلذلك ذكر بلفظ المواعدة ، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة وإذ وعدنا من الوعد .
قوله تعالى : { موسى } . اسم عربي عرب وهو بالعبرانية الماء والشجر سمي به لأنه أخذ من بين الماء والشجر ، ثم قلبت الشين المعجمة سيناً في العربية .
قوله تعالى : { أربعين ليلة } . أي انقضاؤها : ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة ، وقرن بالليل دون النهار لأن شهور العرب وضعت على سير القمر ، والهلال إنما يهل بالليل وقيل : لأن الظلمة أقدم من الضوء ، وخلق الليل قبل النهار ، قال الله تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوهم ودخلوا مصر لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليهما ، فوعد الله موسى أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه : إني ذاهب لميقات ربكم آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون ، وواعدهم أربعين ليلة ، ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة ، واستخلف عليهم أخاه هارون فلما أتى الوعد جاء جبريل على فرس يقال له فرس الحياة لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ربه ، فلما رآه السامري وكان رجلاً صائغاً من أهل باجرمي واسمه ميخا ، وقال سعيد بن جبير : كان من أهل كرمان ، وقال ابن عباس : اسمه موسى بن ظفر ، وقال قتادة : كان من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ، ورأى مواضع قدم الفرس تخضر من ذلك وكان منافقا أظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبرائيل على ذلك الفرس علم أن لهذا شأنا فأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرائيل عليه السلام . قال عكرمة : ألقى في روعه أنه إذا ألقى في شيء غيره ، حيي وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعلة عرس لهم ، فأهلك الله فرعون وبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل ، فلما فصل موسى قال السامري لبني إسرائيل : إن الحلي التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة لا تحل لكم ، فاحفروا حفرة وادفنوها فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه . وقال السدي : إن هارون عليه السلام أمرهم أن يلقوها في حفيرة ، حتى يرجع موسى ففعلوا ، فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري عجلاً في ثلاثة أيام ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب أثر فرس جبرائيل عليه السلام ، فخرج عجلاً من ذهب مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون ، فخار خورة ، وقال السدي : كان يخور ويمشي فقال السامري ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) أي فتركه هاهنا وخرج يطلبه . وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضت عشرون يوماً ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة . وقيل : كان موسى قد وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري فعكف ثمانية آلاف رجل منهم على العجل يعبدونه وقيل : كلهم عبدوه إلا هارونمع اثني عشر ألف رجل وهذا أصح . وقال الحسن كلهم عبدوه إلا هارون وحده فذلك قوله تعالى : { ثم اتخذتم العجل } . أي إلهاً .
قوله تعالى : { من بعده } . أظهر ابن كثير و حفص الذال من أخذت واتخذت والآخرون يدغمونها .
قوله تعالى : { وأنتم ظالمون } . ضارون لأنفسكم بالمعصية واضعون العبادة في غير موضعها .
رابعاً : نعمة عفوه - سبحانه - عنهم بعد عبادتهم للعجل :
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة رابعة وهي عفوه عنهم رغم جحودهم وكفرهم وعبادتهم لغيره ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً . . . }
المواعدة : مفاعلة من الجانبين ، وهي هنا على غير بابها ، لأن المراد بها هنا أمر الله - تعالى - لموسى أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة تمهيداً لإعطائه التوراة ، ويؤيد ذلك قراءة أبي عمرو وأبي جعفر ( وعدنا ) . وقيل : المفاعلة على بابها ، على معنى أن الله - تعالى - وعد نبيه موسى - عليه السلام - أن يعطيه التوراة وأمره بالحضور للمناجاة ، فوعد موسى ربه بالطاعة والامتثال فكان الوعد حاصلا من الطرفين .
وملخص هذه القصة أن قوم موسى بعد أن نجاهم الله ، وأغرق عدوهم أمام أعينهم ، طلبوا من نبيهم موسى أن يأتيهم بكتاب من عند الله ليعملوا بأحكامه ، فوعده - سبحانه - أن يعطيه التوراة بعد أربعين ليلة ينقطع فيها لمناجاته ، وبعد انقضاء تلك الفترة وذهاب موسى لتلقي التوراة من ربه اتخذ بنو إسرائيل عجلا جسداً له خوار فعبدوه من دون الله ، وأعلم الله موسى بما كان من قومه بعد فراقه ، فرجع إليهم غاضباً حزيناً ، وأعلمهم بأن توبتهم لن تكون مقبولة إلا بقتل أنفسهم ، فلما فعلوا ذلك عفا الله عنهم لكي يشكروه ، ويلتزموا الصراط المستقيم .
ومعنى الآيتين الكريمتين : واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن وعدنا موسى أن نؤتيه التوراة بعد انقضاء أربعين ليلة من هذا الوعد ، فلما حل الوعد وجاء موسى لميقاتنا عبدتم العجل في غيبته ، فلم نعاجلكم بالعقوبة ، بل قبلنا توبتكم ، وعفونا عنكم ، لتكونوا من الشاكرين لله تعالى .
وهذا التذكير يحمل في طياته التعجيب من حالهم ، لأنهم قابلوا نعم الله بأقبح أنواع الكفر والجهالة ، حيث عبدوا في غيبة نبيهم ما هو مثال في الغباوة والبلادة وهو العجل .
وفي اختيار حرف العطف ( ثم ) المفيد للتراخي الرتبى في جملة { اتخذتم العجل } إشعار بأنهم انحدروا إلى دركات سحيفة من الجحود والجهل ، وأن ما ارتكبوه هو من عظائم الأمور في القبح والمعصية وحذف المفعول الثاني لاتخذتم وهو " إلهاً أو معبوداً لشناعة ذكره ولعلهم بأنهم اتخذوه إلهاً " .
وقوله تعالى : { مِن بَعْدِهِ } معناه : من بعد مضيه لميقات ربه إلى الطور وغيابه عنهم . وفي ذلك زيادة تشنيع عليهم ، حيث وصفهم - سبحانه - بعدم الوفاء ، لأنهم كان من الواجب عليهم - لو كانوا يعقلون - أن يستمروا على توحيد الله في غيبة نبيهم لا سيما وقد رأوا من المعجزات والنعم ، ما يطمئن النفوس ، ويقوي الإِيمان ويغرس في القلوب الطاعة لله تعالى .
وجملة { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } حالية مقيدة لاتخذتم ، ليكون اتخاذهم العجل معبوداً ، مقروناً بالتعدي والظلم من بدئه إلى نهايته ، وللإِشعار بانقطاع عذرهم فيما فعلوا .
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم ، لَمَّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه ، عند انقضاء أمَد المواعدة ، وكانت أربعين يومًا ، وهي المذكورة في الأعراف ، في قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف : 142 ] قيل : إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة ، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر .
{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعدا لله موسى أن يعطيه التوراة ، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور . وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي { واعدنا } لأنه تعالى وعده الوحي . ووعده موسى عليه السلام المجيء للميقات إلى الطور .
{ ثم اتخذتم العجل } إلها أو معبودا .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )
وقرأ الجمهور «واعدنا » . وقرأ أبو عمرو . «وعدنا » ، ورجحه أبو عبيد ، وقال : إن المواعدة لا تكون إلا من البشر( {[591]} ) .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا بصحيح ، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة( {[592]} ) ، و { موسى } اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف ، والقبط على ما يروى يقولون للماء «مو » ، وللشجر «سا » ، فلما وُجِدَ موسى في التابوت عند ماء وشجر سُمِّي «موسى » .
قال ابن إسحاق : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، ونصب أربعين على المفعول الثاني ، ولا يجوز نصبها على الظرف في هذا الموضع ، وهي فيما روي ذو العقدة وعشر ذي الحجة ، وخص الليالي دون الأيام بالذكر إذ الليلة أقدم من اليوم وقبله في الرتبة ، ولذلك وقع بها التاريخ( {[593]} ) .
قال النقاش : «وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم ، لأنه لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل ، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلة بأيامها » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : حدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل بن الجوهري رحمه الله يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه ، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول : أين حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم : «آتنا غداءنا »( {[594]} ) ؟ وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد .
وقال بعض البصريين : وَعَدَهُ رأس الأربعين ليلة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف : وقوله تعالى { ثم اتخذتم } . قرأ أكثر السبعة بالإدغام .
وقرأ ابن كثير وعاصم في روايه حفص عنه بإظهارالذال و { ثم } للمهلة ، ولتدل على أن الاتخاذ بعد المواعدة ، واتخذ وزنه افتعل من الأخذ( {[595]} ) .
قال أبو علي : «هو من تخذ لا من أخذ » وأنشد [ المخرق العبدي ] : [ الطويل ]
وَقَدْ تَخِذتْ رِجْلي إلى جَنْبِ غَرْزِها . . . نسيفاً كأُفْحوصِ القَطَاة المطرق( {[596]} )
ونصب { العجل } ب { اتخذتم } ، والمفعول الثاني محذوف ، تقديره اتخذتم العجل إلهاً ، واتخذ قد يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : { يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً }( {[597]} ) [ الفرقان : 27 ] وقد يتعدى إلى مفعولين أحدهما هو الآخر في المعنى كقوله تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة }( {[598]} ) [ المجادلة : 16 ، المنافقون : 2 ] ، وكهذه الآية وغيرها ، والضمير في { بعده } يعود على موسى . وقيل : على انطلاقه للتكليم ، إذ المواعدة تقتضيه . وقيل : على الوعد .
وقصص هذه الآية أن موسى صلى الله عليه وسلم لما خرج ببني إسرائيل من مصر ، قال لهم : إن الله تعالى سينجيكم من آل فرعون وينفلكم حليهم ومتاعهم الذي كان أمرهم باستعارته ، وروي أنهم استعاروه برأيهم( {[599]} ) ، فنفلهم الله ذلك بعد خروجهم ، وقال لهم موسى عن الله تعالى : إنه ينزل عليّ كتاباً فيه التحليل والتحريم والهدى لكم ، فلما جازوا البحر طالبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب ، فخرج لميعاد ربه وحده ، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة ، فعدوا عشرين يوماً بعشرين ليلة ، ثم قالوا هذه أربعون من الدهر ، وقد أخلفنا الموعد ، وبدا تعنتهم وخلافهم .
وكان السامري رجلاً من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر ، وقيل لم يكن من بني إسرائيل بل كان غريباً فيهم ، وكان قد عرف جبريل عليه السلام وقت عبرهم البحر ، فقالت طائفة : أنكر هيئته فعرف أنه ملك .
وقال طائفة : كانت أم السامري ولدته عام الذبح( {[600]} ) فجعلته في غار وأطبقت عليه ، فكان جبريل صلى الله عليه وسلم يغذوه بأصابع نفسه فيجد في إصبع لبناً ، وفي إصبع عسلاً ، وفي إصبع سمناً ، فلما رآه وقت جواز البحر عرفه ، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب ، وألقي في روعه أنه لن يلقيها على شيء ويقول له كن كذا إلا كان ، فلما خرج موسى لميعاده قال هارون لبني إسرائيل : إن ذلك الحلي والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم ، فجيئوا به حتى تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين .
وقيل : بل أوقد لهم ناراً وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها ، فجعلوا يطرحون .
وقيل : بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى ، وجاء السامري فطرح القبضة( {[601]} ) ، وقال كن عجلاً .
وقيل : إن السامري كان في أصله من قوم يعبدون البقر ، وكان يعجبه ذلك( {[602]} ) .
وقيل : بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون البقر ف { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] ، فوعاها السامري وعلم أن من تلك الجهة يفتنون ، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل ، وظلت منهم طائفة يعبدونه ، فاعتزلهم هارون بمن تبعه ، فجاء موسى من ميعاده فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه من القرآن إن شاء الله .
ثم أوحى الله إليه أنه لن يتوب على بني إسرائيل حتى يقتلوا أنفسهم ، ففعلت بنو إسرائيل ذلك ، فروي أنهم لبسوا السلاح ، من عبد منهم ومن لم يعبد( {[603]} ) وألقى الله عليهم الظلام ، فقتل بعضهم بعضاً يقتل الأب ابنه والأخ أخاه ، فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفاً عفا الله عنهم وجعل من مات منهم شهيداً ، وتاب على البقية ، فذلك قوله : { ثم عفونا عنكم } .
وقال بعض المفسرين : وقف الذين عبدوا العجل صفاً ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم .
وقالت طائفة : جلس الذين عبدوا بالأفنية ، وخرج يوشع بن نون ينادي : ملعون من حل حبوته ، وجعل الذين لم يعبدوا يقتلونهم ، وموسى في خلال ذلك يدعو لقومه ويرغب في العفو عنهم ، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال أو بقتلهم قراباتهم على الأقوال الأخر لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوا العجل ، وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده .
و { أنتم ظالمون } مبتدأ وخبر في موضع الحال ، وقد تقدم تفسير الظلم( {[604]} ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأ بعضهم: وَاعَدْنا بمعنى أن الله تعالى واعد موسى ملاقاة الطور لمناجاته، فكانت المواعدة من الله لموسى، ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة وَاعَدْنا على «وعدنا» أن قالوا: كل إيعاد كان بين اثنين للالتقاء أو الاجتماع، فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك، فلذلك زعموا أنه وجب أن يقضي لقراءة من قرأ: واعدنا بالاختيار على قراءة من قرأ «وعدنا».
وقرأ بعضهم: «وعَدْنا» بمعنى أن الله الواعد موسى، والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك، أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر، فأما الله جل ثناؤه فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشرّ. قالوا: وبذلك جاء التنزيل في القرآن كله، فقال جل ثناؤه:"إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ" وقال: "وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنها لَكُمْ "قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله: «وإذْ وَعَدْنا مُوسَى».
والصواب عندنا في ذلك من القول، أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القراء، وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان...
ومعنى ذلك وَإذْ وَاعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً بتمامها، فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد.
" ثُمّ اتّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأنْتُمْ ظالِمُونَ".
"ثُمّ اتّخَذْتُمُ العجْلَ منْ بَعْدِهِ": ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. والهاء في قوله «من بعده» عائدة على ذكر موسى. فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل المكذّبين به المخاطبين بهذه الآية، عن فعل آبائهم وأسلافهم وتكذيبهم رسلهم وخلافهم أنبياءهم، مع تتابع نعمه عليهم وسبوغ آلائه لديهم، معرّفهم بذلك أنهم من خلافهم محمدا صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وجحودهم لرسالته، مع علمهم بصدقه على مثل منهاج آبائه وأسلافهم، ومحذّرهم من نزول سطوته بهم بمقامهم على ذلك من تكذيبهم ما نزل بأوائلهم المكذّبين بالرسل من المسخ واللعن وأنواع النقمات...
وتأويل قوله: "وأنْتُمْ ظالِمُونَ" يعني وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم ووضعا للعبادة في غير موضعها.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
وهذا تنبيه على أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان فرق البحر للإبقاء البدني، وكان إنزال الكتاب للإبقاء الديني عقبه به، وكان الطبع السليم والمزاج المستقيم يقتضي إحسان العمل زمن المواعدة واستعطاف المواعدة والترفق له والتملق بما تحقق الرجاء في إنجاز وعده، لا سيما بعد بليغ إحسانه بالإنجاء من العدو وإهلاكه؛ نعى عليهم عملهم بخلاف ذلك بقوله: {وإذ}.
وقال الحرالي: لما ذكّرهم تعالى بأمر الوفاء بالعهد الذي هو خاتمة أمرهم وبالتفصيل الذي كان بادية أمرهم، نظم ذلك بالأمر المتوسط بين الطرفين الذي أعلاه مواعدة موسى عليه السلام ربه الذي النعمة عليه نعمة عليهم، فقال: وإذ {واعدنا} من الوعد وهو الترجية بالخير، وواعدنا من المواعدة وهي التقدم في اللقاء والاجتماع والمفاوضة ونحوه.
{أربعين ليلة}: وخص الليل بالذكر إشارة إلى أن ألذ المناجاة فيه، وإلى أنه لا نوم في تلك المدة بل المناجاة عامة لليلها ونهارها...
ولما كانت الأنفس الأبيّة والهمم العلية تقتضي النفرة من الظالم والأنفة من كل ما ينسب إليه ويذكّر به، وكانوا قد اتخذوا من آثار آل فرعون من حليهم ما دخلوا في رقه وعبوديته، وكانت مشاهدتهم لما رأوا من الآيات مقتضية لغاية البعد من الكفر؛ عبر عن مواقعتهم له بثم فقال: {ثم اتخذتم}، قال الحرالي: من الاتخاذ وهو افتعال مما منه المواخذة كأنه الوخذ، وهو تصيير في المعنى نحو الأخذ في الحس، وفيه تكلف.
{العجل} وذكر في هذا التقرير أصل المواعدة وذكر الميقات وتجاوز الخطاب ما بعد ذلك من مهل حسب ما تفهمه كلمة ثم، فاقتضى إفهام ذلك ما نالوه من الخير، ثم تعقبوا ذلك بالتزام عادتهم في معاودة ما اعتادوه من أعمالهم إلى أدنى عمل من لا عقل له ولا بقية نظر له من اتخاذ جسد عجل إلهاً بعد معرفة آثار الإلهية على الغيب، ففيه تعجيب من أن موسى عليه السلام إنما واعده الله بالمناجاة بعد ميقات أربعين صوماً ونسكاً وتحنثاً وانقطاعاً إلى ربّه، ثم يرون هم أنهم شهدوا الإله مصوراً محسوساً على أن موسى الذي ناجاه ربّه منع الرؤية فكيف بهم وذلك هو ظلمهم، فوضعوا الإله محل الشيء المحسوس، وهو تعالى قد تعالى عن أن يراه صفيه الذي ناجاه في دنياه وإنما ناجاه بعد ميقاته، وهم يهمون في تألّه مرئي من غير مواعدة ولا اختصاص! وفي قوله تعالى {من بعده} أي من بعد إتيانه لميعادنا إضمار لذكر موسى عليه السلام، تقريراً لما كان ينبغي أن يكونوا عليه من الارتقاب لما يأتيهم به موسى من فوائد المناجاة، كما يكون من تعلق قلبه بمن هو قدوته، والبعد بعد عن حد يتخذ مبدأ ليكون سابقه قبل ولاحقه بعد -انتهى.
{وأنتم ظالمون} فاعلون فعل من هو في أظلم الظلام بعد أنجاءكم موسى بالنور المبين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام بعد أن قرر نعمة الإنجاء من استعباد الظالمين، والبعد من فتنة القوم الضالين: ذكر النعمة التي وليتها، وذكرهم بما كان من كفرهم إياها، فقال {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة}. وقد كانت هذه المواعدة لإعطائه التوراة. ولما ذهب لميقات ربه استبطئوه فاتخذوا عجلا من ذهب فعبدوه كما هو مفصل في غير هذه السورة... والمراد هنا التذكير بالنعمة وبيان كفرها، ليظهر أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاندته ليس ببدع من أمرهم، وإنما هو معهود منهم مع رؤية الآيات وبعد إغلاق النعم عليهم، ولذلك اكتفى بالإشارة إليه بقوله {ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} أي اتخذتموه إلها ومعبودا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل، وعبادته في غيبة موسى -عليه السلام- عندما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل، مفصلة في سورة طه السابقة النزول في مكة. وهنا فقط يذكرهم بها، وهي معروفة لديهم. يذكرهم بانحدارهم إلى عبادة العجل بمجرد غيبة نبيهم، الذي أنقذهم باسم الله، من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب. ويصف حقيقة موقفهم في هذه العبادة: (وأنتم ظالمون).. ومن أظلم ممن يترك عبادة الله ووصية نبيه ليعبد عجلا جسدا، وقد أنقذه الله ممن كانوا يقدسون العجول! ومع هذا فقد عفا الله عنهم.
بنو إسرائيل عندما كانوا في مصر.. وكانوا يخدمون نساء آل فرعون.. أخذوا منهن بعض الحلي والذهب خلسة.. ومع أن فرعون وقومه متمردون على الله تبارك وتعالى.. فإن هذا لا يبرر سرقة حلي نسائهم.. فنحن لا نكافئ من عصى الله فينا بأن نعصي الله فيه.. ونصبح متساويين معهم في المعصية.. ولكن نكافئ من عصى الله فينا بأن نطيع الله فيه..
وأبو الدرداء رضي الله عنه حينما بلغه أن شخصا سبه.. بعث له كتابا قال فيه.. يا أخي لا تسرف في شتمنا.. واجعل للصلح موضعا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.. بنو إسرائيل سرقوا بعض حلي نساء آل فرعون.. فجعلها الله فتنة لإغوائهم.. وزين لهم الشيطان أن يصنعوا منه عجلا يعبدونه.. صنعه لهم موسى السامري الذي رباه جبريل.. فأخذ الحلي وصهرها ليجعلها في صورة عجل له خوار.. وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى. أتعرف لماذا فتنهم الله سبحانه وتعالى بالعجل؟
لأن الذهب المصنوع منه العجل من أصل حرام.. والحرام لا يأتي منه خير مطلقا.. ولابد أن نأخذ العبرة من هذه الواقعة.. وهي أن الحرام ينقلب على صاحبه شراً ووبالا، إن كان طعامك حراما يدخل في تكوين خلاياك ويصح في جسدك الحرام.. فإذا دخل الحرام إلى الجسد يميل فعلك إلى الحرام.. فالحرام يؤرق الجسد ويسوقه إلى المعاصي..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تأكيد على مقطع آخر من تاريخ بني إسرائيل، وعلى أكبر انحراف أصيبوا به في تاريخهم الطويل، وهو الانحراف عن مبدأ التوحيد، والاتجاه إلى عبادة العجل. وهذا التأكيد تذكير لهم بما لحقهم من زيغ نتيجة إغواء الغاوين، وتحذير لهم من تكرر هذه التجربة في مواجهة الدين الخاتم: