الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ} (51)

قوله تعالى : { وَاعَدْنَا } . قرأ أبو عمروٍ هنا وما كان مثلَه ثلاثياً ، وقرأه الباقون : " واعَدنْا " بألف . واختارَ أبو عُبَيْد قراءةَ أبي عمروٍ ، ورجَّحها بأنَّ المواعدةَ إنما تكونُ من البشر ، وأمَّا اللهُ تعالى فهو المنفردُ بالوَعْد والوعيد ، على هذا وجَدْنَا القرآن ، نحو : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ } [ الفتح : 20 ] { وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } [ إبراهيم : 22 ] { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ } [ الأنفال : 7 ] ، وقال مكي مُرَجِّحاً لقراءةِ أبي عمرو أيضاً : " وأيضاً فإنَّ ظاهرَ اللفظِ فيه وَعْدٌ من اللهِ لموسى ، وليسَ فيه وعدٌ مِنْ موسى فَوَجَبَ حَمْلُهُ على الواحدِ بظاهر النص " ثم ذَكَرَ جماعةً جِلَّةً من القرَّاءِ عليها . وقال أبو حاتم مُرَجِّحاً لها أيضاً : " قراءةُ العامَّة عندَنا : وَعَدْنا بغيرِ ألفٍ لأن المواعَدَةَ أكثرُ ما تكونُ من المخلوقين والمتكافِئين " . وقد أجابَ الناس عن قول أبي عُبَيْد وأبي حاتم ومكي بأن المفاعلةَ هنا صحيحةٌ ، بمعنى أنَّ موسى نزَّلَ قبوله لالتزام الوفاءِ لمنزلة الوَعْدِ منه ، أو أنَّه وَعَدَ أن يُعْنَى بما كلَّفه ربُّه . وقال مكي : " المواعدة أصلُها من اثنين ، وقد تأتي بمعنى فَعَل نحو : طارَقْتُ النَّعْلَ " ، فجعل القراءتين بمعنىً واحد ، والأولُ أحسنُ . ورجَّح قوم " واعدنا " . وقال الكسائي : " وليس قولُ الله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ النور : 55 ] من هذا البابِ في شيء ؛ لأن واعَدْنا موسى إنما هو من بابِ الموافاة ، وليس من الوَعْد في شيء ، وإنما هو من قولك : مَوْعِدُكَ يومُ كذا وموضعُ كذا ، والفصيحُ في هذا " واعَدْنا " . وقال الزجاج : " واعَدْنا " بالألفِ جَيِّدٌ ، لأن الطاعةَ في القَبول بمنزلةِ المواعدة ، فمِنَ الله وَعْدٌ ، ومِنْ موسى قَبولٌ واتِّباعٌ ، فجَرى مَجْرَى المواعدة " . وقال مكي أيضاً : " والاختيارُ " واعَدْنا " بالألفِ ، لأن بمعنى وَعَدْنَا ، في أحدِ مَعْنَيَيْه ، وأنه لا بُدَّ لموسى وَعْدٍ أو قبول يقُومُ مقامَ الوعدِ فَصَحَّت المفاعلة " .

و " وعدَ " يتعدَّى لاثنين ، فموسى مفعولٌ أولُ ، وأربعين مفعولٌ ثانٍ ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضاف ، أي : تمامَ أربعين ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ على الظرفِ لفسادِ المعنى وعلامةُ نصبه الياءُ لأنه جارٍ مَجْرَى جَمْعِ المذكر السالم ، وهو في الأصلِ مفرد اسمُ جمعٍ ، سُمِّي به هذا العَقْدُ من العَدَد ، ولذلك أَعْربه بعضُهم بالحركاتِ ومنه في أحدِ القولين قولُه :

وماذا يَبْتَغِي الشعراءُ مني *** وقد جاوَزْتُ حَدَّ الأربعينِ

بكسر النون ، و " ليلةً " نصبٌ على التمييز ، والعُقود التي هي من عِشْرين إلى تسعين وأحدَ عشرَ إلى تسعةَ عشرَ كلُّها تُمَيَّز بواحدٍ منصوبٍ .

وموسى اسمٌ أعجمي [ غيرُ منصرفٍ ] ، وهو في الأصل على ما يُقال مركبٌ ، والأصل : مُوشى بالشين لأنَّ " ماء " بلغتهم يقال له : " مُو " والشجر يقال له " شاء " فعرَّبته العربُ فقالوا موسى ، قالوا : وقد لَقِيه آلُ فرعون عند ماءٍ وشجرٍ .

واختلافُهم في موسى : هل هو مُفْعَل مشتقٌّ من أَوْسَيْتُ رأسَه إذا حلقتُه فهو مُوسى ، كأعطيتُه فهو مُعْطَىً ، أو هو فُعْلَى مشتقٌّ من ماسَ يميس أي : يتبخترُ في مِشْيَته ويتحرَّكُ ، فقُلِبَتِ الياءُ واواً لانضمامِ ما قبلَها كمُوْقِن من اليقين ، [ وهذا ] إنما هو [ في ] مُوسى الحديدِ التي هي آلةُ الحَلْق ، لأنها تتحرَّك وتضطربُ عند الحَلْقِ بها ، وليس لموسى اسمِ النبي عليه السلام اشتقاقٌ لأنه أعجميٌّ .

قوله : { ثُمَّ اتَّخَذْتُم الْعِجْلُ } اتَّخذ يتعدَّى لإِثنينِ ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي : ثم اتخذتم العجلَ إلهاً . وقد يتعدَّى لمفعولٍ واحد إذا كان معناه عَمِل وجَعَل نحو : { وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، وقال بعضُهم : تَخِذَ واتَّخَذَ يتعدَّيانِ لاثنين ما لَمْ يُفْهِمَا كَسْباً ، فيتعدَّيان لواحدٍ . واختُلِفَ في اتَّخَذَ فقيل : هو افْتَعَلَ من الأخْذ والأصلُ : اأتخذ الأوُلى همزةُ وصلٍ والثانيةُ فاءُ الكلمةِ فاجتمعَ همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ بعد أخرى ، فَوَجَبَ قلبُها ياءً كإيمان ، فَوَقَعَت الياءُ قبلَ تاءِ الافتعالِ فأُبْدِلَتْ تاءً وأُدْغِمَتْ في تاءِ الافتعال كاتَّسر مِن اليُسْر ، إلاَّ أنَّ هذا قليلٌ في باب الهمز نحو : اتَّكل من الأكْل واتَّزَرَ من الإِزارِ . وقال أبو علي : هو افْتَعَلَ من تَخِذَ يَتْخِذُ ، وأنشد :

وقد تَخِذَتْ رِجْلِي إلى جَنْبِ غَرْزِهَا *** نَسيفاً كأُفْحوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ

وقال تعالى : { لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] وهذا أسهلُ القَوْلَيْن .

والقُرَّاءُ على إدغامِ الذالِ في التاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجِهما ، وابن كثير وعاصم في رواية حَفْصٍ بالإِظهار ، وهذا الخلافُ جارٍ في المفردِ نحو : اتَّخَذْتُ ، والجمع نحو : اتَّخَذْتُم ، وأَتى في هذه الجملة ب " ثُمَّ " دلالةً على أنَّ الاتخاذَ كان بعدَ المواعدة بمُهْلَةٍ .

قوله : " مِنْ بعدِه " متعلِّقٌ باتَّخَذْتُمْ ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، والضميرُ يعودُ على موسى ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ ، أي : مِنْ بعدِ انطلاقِه أو مُضِيِّهِ ، وقال ابنُ عطية : " يعودُ على موسى [ وقيل : على انطلاقِه للتكليمِ ، وقيل : على الوَعْد ، وفي كلامِهِ بعضُ مناقشةٍ ، فإنَّ قولَه : " وقيل يعودُ على انطلاقِه " يَقْتَضِي عَوْدَه على موسى ] من غيرِ تقدير مضافٍ وذلك غيرُ مُتَصَوَّرٍ .

قوله : " وأنتم ظالمون " جملةٌ حاليةٌ من فاعل " اتَّخَذْتُمْ " .