المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ} (51)

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )

وقرأ الجمهور «واعدنا » . وقرأ أبو عمرو . «وعدنا » ، ورجحه أبو عبيد ، وقال : إن المواعدة لا تكون إلا من البشر( {[591]} ) .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وليس هذا بصحيح ، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة( {[592]} ) ، و { موسى } اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف ، والقبط على ما يروى يقولون للماء «مو » ، وللشجر «سا » ، فلما وُجِدَ موسى في التابوت عند ماء وشجر سُمِّي «موسى » .

قال ابن إسحاق : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، ونصب أربعين على المفعول الثاني ، ولا يجوز نصبها على الظرف في هذا الموضع ، وهي فيما روي ذو العقدة وعشر ذي الحجة ، وخص الليالي دون الأيام بالذكر إذ الليلة أقدم من اليوم وقبله في الرتبة ، ولذلك وقع بها التاريخ( {[593]} ) .

قال النقاش : «وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم ، لأنه لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل ، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلة بأيامها » .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : حدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل بن الجوهري رحمه الله يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه ، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول : أين حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم : «آتنا غداءنا »( {[594]} ) ؟ وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد .

وقال بعض البصريين : وَعَدَهُ رأس الأربعين ليلة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف : وقوله تعالى { ثم اتخذتم } . قرأ أكثر السبعة بالإدغام .

وقرأ ابن كثير وعاصم في روايه حفص عنه بإظهارالذال و { ثم } للمهلة ، ولتدل على أن الاتخاذ بعد المواعدة ، واتخذ وزنه افتعل من الأخذ( {[595]} ) .

قال أبو علي : «هو من تخذ لا من أخذ » وأنشد [ المخرق العبدي ] : [ الطويل ]

وَقَدْ تَخِذتْ رِجْلي إلى جَنْبِ غَرْزِها . . . نسيفاً كأُفْحوصِ القَطَاة المطرق( {[596]} )

ونصب { العجل } ب { اتخذتم } ، والمفعول الثاني محذوف ، تقديره اتخذتم العجل إلهاً ، واتخذ قد يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : { يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً }( {[597]} ) [ الفرقان : 27 ] وقد يتعدى إلى مفعولين أحدهما هو الآخر في المعنى كقوله تعالى : { اتخذوا أيمانهم جنة }( {[598]} ) [ المجادلة : 16 ، المنافقون : 2 ] ، وكهذه الآية وغيرها ، والضمير في { بعده } يعود على موسى . وقيل : على انطلاقه للتكليم ، إذ المواعدة تقتضيه . وقيل : على الوعد .

وقصص هذه الآية أن موسى صلى الله عليه وسلم لما خرج ببني إسرائيل من مصر ، قال لهم : إن الله تعالى سينجيكم من آل فرعون وينفلكم حليهم ومتاعهم الذي كان أمرهم باستعارته ، وروي أنهم استعاروه برأيهم( {[599]} ) ، فنفلهم الله ذلك بعد خروجهم ، وقال لهم موسى عن الله تعالى : إنه ينزل عليّ كتاباً فيه التحليل والتحريم والهدى لكم ، فلما جازوا البحر طالبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب ، فخرج لميعاد ربه وحده ، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة ، فعدوا عشرين يوماً بعشرين ليلة ، ثم قالوا هذه أربعون من الدهر ، وقد أخلفنا الموعد ، وبدا تعنتهم وخلافهم .

وكان السامري رجلاً من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر ، وقيل لم يكن من بني إسرائيل بل كان غريباً فيهم ، وكان قد عرف جبريل عليه السلام وقت عبرهم البحر ، فقالت طائفة : أنكر هيئته فعرف أنه ملك .

وقال طائفة : كانت أم السامري ولدته عام الذبح( {[600]} ) فجعلته في غار وأطبقت عليه ، فكان جبريل صلى الله عليه وسلم يغذوه بأصابع نفسه فيجد في إصبع لبناً ، وفي إصبع عسلاً ، وفي إصبع سمناً ، فلما رآه وقت جواز البحر عرفه ، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب ، وألقي في روعه أنه لن يلقيها على شيء ويقول له كن كذا إلا كان ، فلما خرج موسى لميعاده قال هارون لبني إسرائيل : إن ذلك الحلي والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم ، فجيئوا به حتى تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين .

وقيل : بل أوقد لهم ناراً وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها ، فجعلوا يطرحون .

وقيل : بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى ، وجاء السامري فطرح القبضة( {[601]} ) ، وقال كن عجلاً .

وقيل : إن السامري كان في أصله من قوم يعبدون البقر ، وكان يعجبه ذلك( {[602]} ) .

وقيل : بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون البقر ف { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] ، فوعاها السامري وعلم أن من تلك الجهة يفتنون ، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل ، وظلت منهم طائفة يعبدونه ، فاعتزلهم هارون بمن تبعه ، فجاء موسى من ميعاده فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه من القرآن إن شاء الله .

ثم أوحى الله إليه أنه لن يتوب على بني إسرائيل حتى يقتلوا أنفسهم ، ففعلت بنو إسرائيل ذلك ، فروي أنهم لبسوا السلاح ، من عبد منهم ومن لم يعبد( {[603]} ) وألقى الله عليهم الظلام ، فقتل بعضهم بعضاً يقتل الأب ابنه والأخ أخاه ، فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفاً عفا الله عنهم وجعل من مات منهم شهيداً ، وتاب على البقية ، فذلك قوله : { ثم عفونا عنكم } .

وقال بعض المفسرين : وقف الذين عبدوا العجل صفاً ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم .

وقالت طائفة : جلس الذين عبدوا بالأفنية ، وخرج يوشع بن نون ينادي : ملعون من حل حبوته ، وجعل الذين لم يعبدوا يقتلونهم ، وموسى في خلال ذلك يدعو لقومه ويرغب في العفو عنهم ، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال أو بقتلهم قراباتهم على الأقوال الأخر لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوا العجل ، وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده .

و { أنتم ظالمون } مبتدأ وخبر في موضع الحال ، وقد تقدم تفسير الظلم( {[604]} ) .


[591]:- وأما من الله فإنما هو التفرد بالوعد، وعلى هذا جاء سياق القرآن، كقوله تعالى: [وعدكم وعد الحق]. وكقوله تعالى: [وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين]، وقد وافق أبا عبيد على هذا أبو حاتم ومكي، وإنما اتفقوا على ذلك نظرا إلى أصل المفاعلة وأنها تفيد الاشتراك في الفعل، وتكون من كل واحد من المتواعدين ونحوهما.
[592]:- رد لما قاله أبو عبيد، وحاصله: أن المفاعلة قد تأتي لواحد وهو كثير في كلام العرب كقولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، وقد تكون هنا من اثنين بمعنى أن الله وعد موسى الوحي، وموسى وعد الله المجيء للميقات- أو يكون الوعد من الله- وقبوله كان من موسى. والقبول يشبه الوعد- وقراءة الألف هي قراءة الأكثر، ولا وجه لترجيح قراءة البصري على غيرها لأن كلا منهما متواتر، فهما في الصحة سواء، وقد سبق تخريجها على وجه صحيح مقبول، ولا غضاضة في كون الآدمي يعد الله تعالى بمعنى أنه يعاهده ويلتزم أمره.
[593]:- قال في الكافية: وراع في تاريخك الليالي لسبقها بليلة الهلال
[594]:- معناه أن موسى عليه السلام مشى أربعين يوما لمناجاة ربه، ولم يحتج فيها إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع. فقال: [آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا]، والإشارة في ذلك إلى أنه كان طالب علم، وطالب العلم من شأنه أن يحتمل كل مشقة، ولا يبالي بصيف ولا شتاء، ولا ذل ولا جوع، ومن هذه القضية أخذ علماء الصوفية الوصال، وأن أفضله أربعون يوما، قلنا: ويأتي عند ابن عطية في سورة الكهف أن والده حدثه عن أبي الفضل الجوهري الواعظ بمصر أنه قال في مجلس وعظه: من صحب أهل الخير عادت عليه بركتهم، هذا كلب صحب قوما صالحين فكان من بركتهم عليه أن ذكره الله في القرآن ولا يزال يتلى على الألسنة أبدا، ولذلك قيل: من جالس الذاكرين انتبه من غفلته، ومن خدم الصالحين ارتفع بخدمته.
[595]:- مسألة (اتخذ) عند أبي علي الفارسي مخرجة على أن التاء الأولى أصلية إذ قالت العرب (تخذ) بمعنى (أخذ)، كما في بيت الممزق العبدي، وقد حصل أبو (ح) في المسألة أقوالا أربعة. انظره في البحر المحيط.
[596]:- النسيف: أثر الكدم وأثر ركض الرجل بجنبي البعير- والأفحوص: مجثم القطاة لأنها تفحصه قبل أن تبيض فيه. ويقال: طرقت القطاة إذا حان خروج بيضها.
[597]:- من الآية 27 من سورة الفرقان.
[598]:- من الآية 16 من سورة المجادلة.
[599]:- هذا هو الأشبه بموسى عليه السلام، ويعضده ما جاء في سورة (طه)، حين قالوا: [ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم] فظاهره أنهم أعلموه بما لم يتقدم له به علم، أشار إليه (خ).
[600]:- أي العام الذي أمر فيه فرعون بذبح أبناء بني إسرائيل.
[601]:- أي للحلي الذي ألقي في الحفرة، كن عجلا فكان عجلا من ذهب.
[602]:- إشارة إلى بيان وجه اختيار العجل دون غيره من الحيوانات.
[603]:- أي: من عبد العجل، ومن لم يعبد.
[604]:- في تفسير قوله تعالى: [فتكونا من الظالمين].