غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ} (51)

49

ولما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله موسى . ونسبه : موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام . أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وإنما قيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي . وقال أهل التحقيق : لأن الليلة وقت العبادة والخلوة فخصت بالذكر لشرفها . ولعدد الأربعين خاصية لن ينكرها أهل الذوق ، ولهذا جاء في الحديث " من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه " والجنين يتقلب في الأطوار في الأربعينات ، قال أبو العالية : وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور . ولابد من تقدير مضاف أي انقضاء أربعين كقولك " اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان " أي تمام الأربعين . ومن قرأ { واعدنا } من المواعدة فمعناه أن الله تعالى وعده الوحي ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور . وذكر الأربعين ههنا مجمل وتفصيله في الأعراف كقوله : { ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] فصل أولاً ثم أجمل . ومعنى { ثم } في قوله { ثم اتخذتم } استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له ، لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين تنبيهاً للحاضرين وتعريفاً للغائبين وإظهاراً لدرجة موسى وسائر بني إسرائيل ، وأتوا عقيب ذلك بأشنع أنواع الجهل والكفر ، كان ذلك في محل التبعيد والتعجيب كما تقول : إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء . والاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء ، ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه " فعل " " يفعل " وقالوا : يخذ يتخذ ، وقد أجرى اتخذ مجرى الأفعال القلبية في الدخول على المبتدأ والخبر نحو " جعل " و " صير " والتقدير : اتخذتم العجل إلهاً إلا أنه حذف الثاني للعلم به ولذكره في مواضع أخر منها في طه { فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] وقوله من بعده من بعد مضيه إلى الطور . قال أهل السير : لما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي التي استعاروها من القبط ، قال لهم هارون : إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها ، فجمعوا ناراً وأحرقوها . وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر ، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة . ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلاً وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار { فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] فاتخذه إلهاً لأنفسهم ، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله { وأنتم ظالمون } كما قال { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات .

والواو في { وأنتم } إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم ، وقال أهل التحقيق : إن لكل قوم عجلاً يعبدونه . قال صلى الله عليه وسلم " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة " وقال " ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى " وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه كأنه قال : هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد ، فكيف بهؤلاء الأخلاف ؟ وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية . ما أفظع شأن الجهلة المقلدة ، رضوا بأن يكون العجل إلهاً ، وما رضوا بأن يكون البشر نبياً وقد تمعل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي صلى الله عليه وسلم . إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم : أنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق ، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة ، وههنا يظهر التفاوت بين أمة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } [ الفتح : 29 ] .