السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ} (51)

{ وإذ وعدنا موسى } بغير ألف بين الواو والعين ، كما قرأ به أبو عمرو ، والباقون بألف بين الواو والعين لأنه تعالى وعد موسى الوحي ووعد موسى ربه المجيء للميقات إلى الطور ، وقيل : هذا من المفاعلة التي تكون من الواحد كعاقبت اللص وطارقت النعل . وأمال حمزة ألف موسى محضة ، وأبو عمرو بين بين ، وورش بالفتح وبين اللفظين { أربعين ليلة } أن يعطيه عند انقضائها التوراة ليتعلموا بها وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور ، وقيل : لأنّ الظلمة أقدم من الضوء وخلق الله تعالى الليل قبل النهار قال الله تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } ( يس ، 37 ) وقول البيضاوي : إنّ ذلك الوعد لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون تبع في ذلك «الكشاف » ولم يعرف ذلك لغيرهما وإنما كانوا بالشام لأن إتيان موسى للمقيات كان بطور سينا وهو بالشام لا بمصر وقد قال البهاء بن عقيل في «تفسيره » لم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرّخين بأنهم دخلوا مصر بعد خروجهم منها .

فإن قيل : قوله تعالى : { فأخرجناهم من جنات } إلى قوله تعالى : { وأورثناها بني إسرائيل } ( الشعراء ، 59 ) يقتضي أنهم عادوا إليها . أجيب : بأن المعنى أن الله تعالى أورثهم وملكهم إياها ولم يردّهم إليها وجعل مساكنهم الشام . { ثم اتخذتم } قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم اتخذتم بإظهار الذال قبل التاء ، والباقون بإدغام الذال في التاء . { العجل } الذي صاغه لكم السامريّ إلهاً ومعبوداً { من بعده } أي : بعد ذهابه إلى ميقاتنا ، وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوّهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتمون إليها فوعد الله تعالى موسى أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه : إني ذاهب لميقات ربي آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون واستخلف أخاه هارون فلما أتاه الوعد جاءه جبريل على فرس يقال له : فرس الحياة ، لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه ، فلما رآه السامريّ وكان رجلاً صائغاً من قبيلة يقال لها : سامرة ، ورأى موضع قدم الفرس يخضر من ذلك وكان منافقاً يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر ألقى في روعه أنه إذا ألقى في شيء غيره وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيراً من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعمل عرس لهم فأهلك الله تعالى فرعون وقومه فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل قال السديّ : فأمرهم هارون أن يلقوها في حفرة حتى يرجع موسى ففعلوا فلما اجتمعت الحلي صاغها السامريّ عجلاً من ذهب في ثلاثة أيام مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون ثم ألقى فيه القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبريل فصار يخور ويمشي فقال السامريّ : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ، أي : فتركه ههنا ، وخرج يطلبه وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدّوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوماً ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة ، وقيل : كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة قال تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } ( الأعراف ، 142 ) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في محله فكانت فتنتهم في تلك العشرة ، فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ورأوا العجل وسمعوا قول السامريّ عكف منهم ثمانية آلاف رجل على العجل يعبدونه ، وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل ، قال البغويّ : وهو الأصح ، وقال الحسن : كلهم عبدوه إلا هارون ، ولذلك قال تعالى : { وأنتم ظالمون } أي : باتخاذه لوضعكم العبادة في غير محلها .