4 - فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضربوا رقابهم ، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فاحكموا قيد الأساري ، فإما أن تمنوا بعد انتهاء المعركة مناً بإطلاقهم دون عوض ، وإمَّا أن تقبلوا أن يفتدوا بالمال أو بالأسرى من المسلمين . وليكن هذا شأنكم مع الكافرين ، حتى تضع الحرب أثقالها وينتهي ، فهذا حكم الله فيهم ، ولو شاء الله لانتصر منهم بغير قتال ، وليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يُبطل أعمالهم{[203]} ، سيهديهم ويصلح قلوبهم ، ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم .
قوله تعالى : { ويدخلهم الجنة عرفها لهم } أي بين لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم لا يخطئونها ، ولا يستدلون عليها أحداً كأنهم سكانها منذ خلقوا ، فيكون المؤمن أهدى إلى درجته ، وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا ، هذا قول أكثر المفسرين .
وروى عطاء عن ابن عباس : { عرفها لهم } أي : طيبها لهم ، من العرف ، وهو الريح الطيبة ، وطعام معرف أي : مطيب .
{ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } أى : ويدخلهم بعد كل ذلك الجنة يوم القيامة ويهديهم إلى بيوتهم ومساكنهم فيها ، بحيث لا يخطئونهأ ، حتى لكأنهم يقيمون فيها منذ خلقوا ، وذلك كله بإلهام من الله - تعالى - : لهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : { عَرَّفَهَا لَهُمْ } هذا التعريف فى الآخرة . قال مجاهد : يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله - تعالى - لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا . . . وذلك بإلهام منه - عز وجل - .
وورد فى بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا له على منزلته فيها ، وقيل : إنه - تعالى - : رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف .
وقيل : معنى عرفها لهم . طيبها لهم منا لعرف وهو الرائحة الطيبة ، ومنه طعام معرف ، أى مطيب .
وعن الجبائى أن التعريف فى الدنيا ، وهو يذكر أوصافها ، والمراد أنه - سبحانه - لم يزل يمدحها لهم ، حتى عشقوها ، فاجتهدوا فى فعل ما يوصلهم إليها . .
هذا ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1- وجوب قتال الكافرين بكل شدة وقوة ، حتى تضعف شوكتهم ، وتدول دولتهم ، ويخضعوا لحكم شريعة الإِسلام فيهم .
وفى هذه المعنى وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } 2- أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى - : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } أن السير من الأعداء يدور أمره بين هاتين الحالتين إما أن نطلق سراحه بدون مقابل ، وإما أن نطلق سراحه فى مقابل فدية معينة نأخذها منه ، وقد تكون هذه الفدية مالا ، أو عملا ، أو غير ذلك مما فيه منفعة للمسلمين .
ويرى بعض العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله - تعالى - : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } ويرى المحققون من العلماء أن هذه الآية ، وهى قوله - تعالى - : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } . تحكى حالات معينة يكون امر الأسرى فيها دائرا بين المن والفداء ، لأنهما من مصلحة المسلمين ، وهناك حالات أخرى يكون الأصلح فيها قتل الأعداء ، أو استرقاقهم .
فمسألة الأسرى من الأعداء ، يكون الحكم فيها على حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين ، ومرجع الحكم فيها إلى البصراء بالحرب وبوضع خططها ، لأنهم أعرف الناس بكيفة معاملة الأسرى .
وهذا الرأى الأخير هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه الثابت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أفعاله أصحابه ، ولأن ذكر المن والفداء لا ينافى جواز غيره كالقتل - مثلا - لأن هذا الغير مفهوم من آيات أخرى ذكرت هذا الحكم فى أوقات وحالات معينة .
وقد رجح هذا الرأى كثير من العلماء ، منهم الإِمام ابن جرير ، فقد قال ما ملخصه - بعد أن ساق جملة من الأقوال - : والصواب من القول عندنا فى ذلك ، أن هذه الآية محكم غير منسوخة لأنه غير مستنكر أن يكون جعل الخيار من المن والقتل والفداء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم وإلى القائمين بعده بأمر الأمة . وإن لم يكن القتل مذكورا فى هذه الآية ، لأنه قد أذن - سبحانه - بقتلهم فى آيات أخرى منها { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وقد فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك ، مع الأسرى ففى بدر قتل عقبة بن أبى معيط . وأخذ الفداء من غيره . . ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفى وهو أسير فى يده .
وقال القرطبى - بعد أن ذكر أربعة أقوال - : الخامس : أن الآية محكمة ، والإِمام مخير فى كل حال .
وبهذا قال كثير من العلماء منهم : ابن عمر ، والحسن وعطاء ، وهو مذهب مالك والشافعى والثورى والأوزاعى . . وغيرهم ، وهو الاختيار ؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك .
فقد قتل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بدر النضربن الحارث . وأخذ الفداء من أسارى بدر . . وقد مَنَّ على سبى هوزان ، وهذا كله ثابت فى الصحيح .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : وما نحسبنا مخطئين إذ قلنا إن الذى كان من النبى - صلى الله عليه وسلم - نم الأعمال المختلفة ، كان نزولا على مقتضى المصلحة ، ولذلك نراه كان يجتهد فى تعرف وجوه المصلحة ، فيستشير أصحابه .
ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة ، واحدا لا يتخطى . ما كان هناك معنى للاستشارة ، ولا للنزول على رأى بعض أصحابه ، ولما خالف فى الواحدة بين أسير وأسير ، فقتل هذا ، وأخذ الفداء من هذا . ومنَّ على هذا .
وإذا فالمصلحة العامة وحدها المحكْمة ، وهى الخطة التى تتبع فى الحروب ، خصوصا والحرب مكر وخديعة ، ما دامت مكر أو خديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة ولا يرسم لهم كيف يمكرون ، وإلا ما كانوا ما كرين .
3- بشارة الشهداء بالثواب الجزيل ، وبالأجر العظيم ، ويكفى لذلك قوله - تعالى - : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } .
وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث منها : ما أخرجه الإِمام أحمد عن قيس الجذامى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى الشهيد ست خصال : عند أول قطرة من دمه يكفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر ، ويحلى حلة الإِيمان " .
قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ، لا يستدلون عليها أحدا . وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا .
وقال محمد بن كعب : يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة ، كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة .
وقال مقاتل بن حَيَّان : بلغنا أن الملك الذي كان وُكِّل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له ، فيعرّفه كل شيء أعطاه الله في الجنة ، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل [ إلى ] {[26630]} منزله وأزواجه ، وانصرف الملك عنه ذكرهن {[26631]} ابن أبي حاتم ، رحمه الله .
وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا ، رواه البخاري من حديث قتادة ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ]{[26632]} ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار ، يتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، والذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا " {[26633]} .