المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

141- الله - وحده - هو الذي خلق حدائق من الكرم ، منها ما يغرس ويرفع على دعائم ، ومنها ما لا يقوم على دعائم وخلق النخل والزرع الذي يخرج ثمراً مختلفاً في اللون والطعم والشكل والرائحة وغير ذلك ، وخلق الزيتون والرمان متشابهاً في بعض الصفات وغير متشابه في بعضها الآخر ، مع أن التربة قد تكون واحدة وتسقى جميعها بماء واحد . فكلوا من ثمرها إذا طاب لكم ، وأخرجوا منها الصدقة عند نضجها وجمعها ، ولا تسرفوا في الأكل فتضروا أنفسكم وتضروا الفقراء في حقهم ، إن الله لا يرضى عن المسرفين في تصرفاتهم وأعمالهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات } بساتين .

قوله تعالى : { معروشات وغير معروشات } أي : مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات . وقال ابن عباس : معروشات : ما انبسط على وجه الأرض . فانتشر مما يعرش مثل : الكرم والقرع والبطيخ وغيرها . وغير معروشات : ما قام على ساق ونسق ، مثل : النخل والزرع وسائر الأشجار .

وقال الضحاك : كلاهما من الكرم خاصة ، منها ما عرش ومنها ما لم يعرش .

قوله تعالى : { والنخل والزرع } ، أي : وأنشأ النخل والزرع .

قوله تعالى : { مختلفاً أكله } ، ثمره وطعمه ، منها الحلو والحامض ، والجيد ، والرديء . قوله تعالى : { والزيتون والرمان متشابهاً } ، في النظر .

قوله تعالى : { وغير متشابه } ، في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف .

قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر } ، هذا أمر إباحة .

قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } ، قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم { حصاده } بفتح الحاء ، وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد ، كالصرام والصرام ، والجذار والجذاز . واختلفوا في هذا الحق ، فقال ابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن المسيب : إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر . وقال علي ابن الحسين ، وعطاء ، ومجاهد ، وحماد ، والحكم : هو حق في المال سوى الزكاة ، أمر بإتيانه ، لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة . قال إبراهيم : هو الضغث ، وقال الربيع : لقاط السنبل . وقال مجاهد : كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مر . وقال يزيد بن الأصم : كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد ، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه . وقال سعيد بن جبير : كان هذا حقاً يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام ، فصار منسوخاً بإيجاب العشر . قال مقسم عن ابن عباس : نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن .

قوله تعالى : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } ، قيل : أراد بالإسراف إعطاء الكل . قال ابن عباس في رواية الكلبي :عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيء ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . قال السدي : { لا تسرفوا } أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . قال الزجاج : على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف ، لأنه قد جاء في الخبر ( أبدأ بمن تعول ) . وقال سعيد بن المسيب : معناه لا تمنعوا الصدقة . فتأويل هذه الآية على هذا لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة . وقال مقاتل :لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام . وقال الزهري : لا تنفقوا في المعصية . وقال مجاهد : الإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل ، وقال : لو كان أبو قيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ، ولو أنفق درهماً أو مداً في معصية الله كان مسرفاً ، وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف . وروى ابن وهب عن أبي زيد قال : الخطاب للسلاطين ، يقول : لا تأخذوا فوق حقكم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

ثم بين - سبحانه - أنه هو الخالق لكل شىء من الزروع والثمار والأنعام التى تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة ، وأن من الواجب عليهم أن يستعملوا نعم الله فيما خلقت لهم فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَنشَأَ . . . . } .

قوله - تعالى - { وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } .

أنشأ : أى أوجد وخلق . والجنات : البساتين والكروم المتلفة الأشجار .

ومعروشات : أصل العرش فى اللغة شىء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش ، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً من بابى - ضرب ونصر - ، وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف . فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك . قال ابن عباس : المعروشات . ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه ، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك . وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر .

وقيل المعروشات وغي المعروشات كلاهما فى الكرم خاصة ، لأن منه ما يعرش ومنه مالا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا .

وقيل المعروشات ما غرسه الناس فى البساتين واهتمووا به فعرشوه من كرم أو غيره ، وغير المعروشات . هو ما أنبته الله فى البرارى والجبال من كرم وشجر .

أى : وهو - سبحانه - الذى أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التى منها المرفوعات عن الأرض ، ومنها غير المرفوعات عنها ، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع .

وقوله : { والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } عطف على جنات ، أى : أنشأ جنات ، وأنشأ النخل والزرع ، والمراد بالزرع جميع الحبوب التى يقتات بها .

وإنما أفردها مع أنهما داخلان فى الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت فى الجنات .

و { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أى ، ثمره وحبه فى اللون والطعم والحجم والرائحة .

والضمير فى أكله راجع إلى كل واحد منهما ، أى : النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى ، مختلف المأكول فى كل منهما فى الهيئة والطعم .

قال الجمل : وجملة . { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } حال مقدرة ، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا ، فهو مثل قولهم : مررت برجل معه صقر صائداً له غدا " .

وقوله : { والزيتون والرمان مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } أى : وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر وغير متشابه فى الطعم أو متشابها بعض أفرادها فى اللون أو الطعم أو الهيئة " وغير متشابه فى بعضها .

قال القرطبى : وفيه ألدة ثلاثة .

أحدها : ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير .

الثانى : على المنة منه - سبحانه - علينا ، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء ، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم ، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى ، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء ، لأنه لا يجب عليه شىء .

الثالث : على القدرة فى أن يكون الماء الذى من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها ، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها ، وثمر خارج من صفته : الجرم الوافر ، واللون الزاهر ، والجنى الجديد ، والطعم اللذيذ ، فأين الطبائع وأجناسها وأي الفلاسفة وأسسها ، هل هى فى قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب .

كلا ، لا يتم ذلك فى العقول إلا لحى قادر عالم مريد ، فسبحان من له فى كل شىء آية ونهاية .

ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب . وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء ، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم " .

ثم ذكر - سب-انه - المقصود من خلق هذه الأشياء فقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } أى : كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التى أنشأناها لكم ، شاكرين الله على ذلك . والأمر للإباحة . وفائدة التقييد بقوله { إِذَآ أَثْمَرَ } إباحة الأكل قبل النضوج والإدراك .

وقيل فائدته : الترخيص للمالك فى الأكل من قبل أداء حق الله - تعالى - لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شىء منه لمكان شركة المساكين له فيه ، فأباح الله له هذا الأكل .

ثم أمرهم - سبحانه - بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أى ، كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم ، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده .

ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها ، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير .

وأصحاب هذا الراى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة .

وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة ، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده .

ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية .

ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات ، وفى الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد ، مبالغة فى العزم على المبادرة إليه .

والمعنى : اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه ، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء .

وقيل : إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله .

ثم ختمت الآية بالنهى عن الإسراف فقالت ، { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } . أى لا تسرفوا فى أكلكم قبل الحصاد ولا فى صدقاتكم ولا فى أى شأن من شئونكم ، لأنه - سبحانه - لا يحب المسرفين .

وقال ابن جريج ، نزلت فى ثبات بن قيس ، قطع نخلا له فقال . لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته ، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فنزلت هذه الآية .

وقال عطاء ، نهوا عن السرف فى كل شىء .

وقال إياس بن معاوية ، ما جاوزت به أمر الله هو سرف .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

136

بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها ، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) . . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ؛ ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام ، متاعا للناس ونعمة ؛ ذرأها لهم ليشكروا له ؛ ويعبدوه - وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم ، فهو الغني ذو الرحمة ؛ إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً ، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام ؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا ، ولأولئك نصيبا ، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين-في النصيب الذي جعلوه لله ؟ !

إن الخالق الرازق هو الرب المالك . الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده ، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله !

( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، والنخل والزرع مختلفا أكله ، والزيتون والرمان ، متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر ، وآتوا حقه يوم حصاده ، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين ) .

إن الله - سبحانه - هو الذي خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذي أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التي يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ؛ ومنها البريات التي تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذي أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذي خلق الزيتون والرمان ، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه ، وإنه - سبحانه - هو الذي خلق هذه الأنعام وجعل منها( حمولة ) عالية القوائم بعيدة في الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها ( فرشا ) صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .

إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة في هذه الأرض ؛ ونوّعها هذا التنويع ؛ وجعلها مناسبة للوظائف التي تتطلبها حياة الناس في الأرض . . فكيف يذهب الناس - في مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله في شأن الزروع والأنعام والأموال ؟

إن المنهج القرآني يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس ، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده ؛ هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال :

وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار ، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات في صدد قضية الحاكمية ، كما حشدها من قبل في صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية .

وعندما يذكر الزروع والثمار يقول :

( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين ) . .

والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية . وقد قلنا في التقديم للسورة : إن الآية مكية ، لأن السياق في الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت في المدينة . وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده ، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات في الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة . .

وقوله تعالى :

( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .

ينصرف إلى العطاء ، كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا ، فقال الله سبحانه : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .

وعندما يذكر الأنعام يقول :

كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . .

ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه ، والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله ؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين ؟ !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

يقول تعالى بيانا لأنه الخالق لكل شيء ، من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسَّموها وجَزَّءوها ، فجعلوا منها حرامًا وحلالا فقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ }

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَعْرُوشَاتٍ } مسموكات . وفي رواية : " المعروشات " : معروشات ما عرش الناس ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما خرج في البر والجبال من الثمرات .

وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { مَعْرُوشَاتٍ } ما عرش من الكرم { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما لم يعرش من الكرم . وكذا قال السدي .

وقال ابن جُرَيْج : { مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قال : متشابه في المنظر ، وغير متشابه في الطعم .

وقال محمد بن كَعْب : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } قال : من رطبه وعنَبه .

وقوله{[11265]} تعالى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال ابن جرير : قال بعضهم : هي الزكاة المفروضة .

حدثنا عمرو ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن درهم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : الزكاة المفروضة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } يعني : الزكاة المفروضة ، يوم يُكَال ويعلم كيله . وكذا قال سعيد بن المسيب .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده ، لم يخرج مما حصد شيئًا فقال الله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن يعلم ما كيله وحقه ، من كل عشرة واحدًا ، ما يَلْقُط{[11266]} الناس من سنبله .

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى ابن حبَّان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من كُل جاد عَشْرَة أوسُق من التمر ، بقنْو يعلق في المسجد للمساكين{[11267]} وهذا إسناده جيد قوي .

وقال طاوس ، وأبو الشعثاء ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، وابن جُرَيْج : هي الزكاة .

وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار ، وكذا قال زيد بن أسلم .

وقال آخرون : هو حق آخر سوى الزكاة .

وقال{[11268]} أشعث ، عن محمد بن سِيرين ، ونافع ، عن ابن عمر في قوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة . رواه ابن مردويه . وروى عبد الله بن المبارك وغيره . عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : يعطي من حضره يومئذ ما تيسر ، وليس بالزكاة .

وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين ، طرحت لهم منه .

وقال عبد الرزاق ، عن ابن عيينة{[11269]} عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : عند الزرع يعطي القبض ، وعند الصرام يعطي القبض ، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام .

وقال الثوري ، عن حماد ، عن إبراهيم [ النخعي ]{[11270]} قال : يعطي مثل الضغث .

وقال ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : كان هذا قبل الزكاة : للمساكين ، القبضة الضغث لعلف دابته .

وفي حديث ابن لَهِيعة ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد مرفوعًا : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }

قال : ما سقط من السنبل . رواه ابن مَرْدُويه{[11271]} .

وقال آخرون : هذا كله شيء كان واجبًا ، ثم نسخه الله بالعشر ونصف العشر . حكاه ابن جرير عن ابن عباس ، ومحمد بن الحنفية ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، والسدي ، وعطية العَوْفي . واختاره ابن جرير ، رحمه{[11272]} الله .

قلت : وفي تسمية هذا نسخًا نظر ؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل ، ثم إنه فصل بيانه وبَيَّن مقدار المخرج وكميته . قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة ، فالله أعلم .

وقد ذم الله سبحانه الذين يصومون ولا يتصدقون ، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة " ن " : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } أي : كالليل المدلهم سوداء محترقة { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي : قوة وجلد وهمة { قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 17 - 33 ] .

وقوله : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } قيل : معناه : ولا تسرفوا في الإعطاء ، فتعطوا فوق المعروف .

وقال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا ، ثم تباروا فيه وأسرفوا ، فأنزل الله : { وَلا تُسْرِفُوا }

وقال ابن جُرَيْج{[11273]} نزلت في ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس ، جذَّ نخلا . فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته . فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فأنزل الله : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } رواه ابن جرير ، عنه .

وقال ابن جريج ، عن عطاء : ينهى عن السرف في كل شيء .

وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف .

وقال السدي في قوله : { وَلا تُسْرِفُوا } قال : لا تعطوا أموالكم ، فتقعدوا فقراء .

وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب ، في قوله : { وَلا تُسْرِفُوا } قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا .

ثم اختار ابن جرير قول عطاء : إنه نَهْيٌ عن الإسراف في كل شيء . ولا شك أنه صحيح ، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية حيث قال تعالى : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] }{[11274]} أن يكون عائدًا على الأكل ، أي : ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن ، كما قال تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] {[11275]} } [ الأعراف : 31 ] ، وفي صحيح البخاري تعليقًا : " كلوا واشربوا ، والبسوا وتصدقوا ، في غير إسراف ولا مخيلة " {[11276]} وهذا من هذا ، والله أعلم .


[11265]:في أ: "قال".
[11266]:في د: "وما يلفظه".
[11267]:المسند (3/359) وسنن أبي داود برقم (1662).
[11268]:في أ: "قال".
[11269]:في أ: "قتينة".
[11270]:زيادة من أ.
[11271]:ورواه النحاس في الناسخ المنسوخ (ص427): حدثنا الحسن بن غليب، حدثنا عمران بن أبي عمران، حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم يروى عن أبي الهيثم مناكير.
[11272]:في أ: "رحمهم".
[11273]:في م: "ابن جرير".
[11274]:زيادة من م، أ.
[11275]:زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
[11276]:صحيح البخاري ( 10/252) "فتح"، وقد وصله ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (51) فرواه من طريق همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

وقوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار و { أنشأ } معناه خلق واخترع «والجنة » مأخوذة من جن إذا ستر ، و { معروشات } قال ابن عباس : ذلك في ثمر العنب ، ومنها ما عرش وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات » ما عرش كهيئة الكرم ، وغيره : البساتين وقيل : المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك وقيل : المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق ، و { مختلفاً } : نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد الإنشاء{[5121]} ، و { متشابهاً } يريد في المنظر ، { وغير متشابه } في المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله { كلوا من ثمره } نفس الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك ، ويقرأ «من ثُمره » بضم الثاء وقد تقدم ، { وآتوا حقه يوم حصاده } فقالت طائفة من أهل العلم : هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه ، وقاله مالك بن أنس .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول معترض بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة ، وحكى الزجّاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة ، ومعترض أيضاً بأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه ، وقال ابن الحنفية أيضاً وعطاء ومجاهد وغيرهم من أهل العلم : بل قوله { وآتوا حقه } ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة ، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو وعند تكديسه في البيدر ، فإذا صفى وكال أخرج من ذلك الزكاة ، وقال الربيع بن أنس : حقه :إباحة لقط السنبل ، وقالت طائفة كان هذا حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها .

وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن ، وقال السدي :الآية في هذه السورة مكية نسختها الزكاة ، فقال له سفيان عمن ؟ قال عن العلماء{[5122]} .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والنسخ غير مترتب في هذه الآية ، لأن هذه الآية وآية الزكاة{[5123]} لا تتعارض بل تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض ، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي «حِصاده »{[5124]} وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حَصاده » بفتح الحاء وهما لغتان في المصدر ، وقوله تعالى : { ولا تسرفوا } الآية ، من قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد بن المسيب ، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك إسراف من الفعل ، وقاله ابن زيد ، ومن جعل الآية على جهة الندب إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته{[5125]} .

وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته فأمسى وليس عنده ثمرة ، فنزلت هذه الآية ، وقال أبو العالية كانوا يعطون شيئاً عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية ، ومن قال إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية .


[5121]:- المعنى أن الله أنشأ الزرع والنخل مقدرا فيهما الاختلاف، وقد مثّل لهذا سيبويه بقوله: "مررت برجل معه صقر صائدا به غدا" على الحال، كما تقول: "لتدخلن الدار آكلين شاربين"، أي مقدرين ذلك. وقيل: [أُكُله] مرفوع بالابتداء و[مُختلفا] نعته، لكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب، كما تقول: "عندي طباخا غلام"، وكما قال الشاعر: الشر منتشر يلقاك عن عرض والصالحات عليها مغلقا باب وقيل: إن الله لما أنشأ الزرع والنخل كان مختلفا أكله، على معنى أنه لو كان له أكل لكان مختلفا أكله. قال الزجاج: هذه مسألة مشكلة من النحو – وقد جاء التعبير بقوله تعالى: {أُكُله} ولم يقل [أكلهما] باعتباره يعود على الزرع والنخل لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها} ولم يقل {إليهما} وقال الحوفي: "والهاء في [أكله] عائدة على ما تقدم من ذكر هذه الأشياء المنشئات"، وعلى هذا يكون الحال من جميع ما أنشأ لا من النخل والزرع فقط، وردّ عليه أبو حيان بقوله "لو كان كذلك لكان التركيب الصحيح (مختلفا أكلها)، وأجيب بأن ذلك على تقدير محذوف هو في الأصل مضاف، أي(ثمر جنات...) وروعي هذا المحذوف في هاء [أكله].
[5122]:- نقل القرطبي هذا الخبر بالنص التالي (وقال سفيان: سألت السدي عن هذه الآية فقال: نسخها العشر ونصف العشر، فقلت: عمّن؟ قال: عن العلماء)
[5123]:- هي قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} الآية (103) من سورة (التوبة)، وكذلك قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} الآية 0439 من سورة (البقرة).
[5124]:- أي بكسر الحاء بدليل قوله بعد القراءة الثانية: "بفتح الحاء" وهو هنا يقول: "وهما لغتان في المصدر". لكن ابن خالويه يقول في كتابه "الحجة في القراءات السبع": "بفتح الحاء وكسرها فرقا بين الاسم والمصدر على ما قدمنا القول فيه أو على أنهما لغتان" ومثل (حصاد) في ذلك: الصرام والصّرام والجذاذ والجِذاذ.
[5125]:- الإسراف في النفقة: التبذير، ويؤكد هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المعتدي في الصدقة كمانعها)، وقصة ثابت بن قيس التي ذكرت على أنها سبب نزول الآية تؤيد ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات}، يعنى الكروم وما يعرش، {وغير معروشات}، يعني قائمة على أصولها، {والنخل والزرع مختلفا أكله}، يعني طعمه، منه الجيد، ومنه الدون، ثم قال: {والزيتون والرمان متشابها}، ورقها في النظير يشبه ورق الزيتون ورق الرمان، {وغير متشابه} ثمرها وطعمها، وهما متشابهان في اللون، مختلفان في الطعم، يقول الله: {كلوا من ثمره إذا أثمر}، حين يكون غضا، ثم قال: {وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}، يقول: ولا تشركوا الآلهة في تحريم الحرث والأنعام...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

..ابن رشد: وسئل مالك عن تفسير قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} يقول: أيها الزارع اتق الله وأد حق ما رفعت. وأنت أيها الوالي لا تأخذ أكثر من حقك، فتكون من المسرفين.

- ابن العربي: روى ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك في تفسير هذه الآية، أنه: الصدقة المفروضة...

تفسير الشافعي 204 هـ :

231- قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا بلغ ما أخرجت الأرض ما يكون فيه الزكاة أخذت صدقته ولم ينتظر بها حول لقول الله عز وجل: {وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حِصَادِهِ} ولم يجعل له وقتا إلا الحصاد، واحتمل قول الله عز وجل: {يَوْمَ حِصَادِهِ}: إذا صلح بعد الحصاد، واحتمل: يوم يحصد وإن لم يصلح. فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تأخذ بعدما يجف، لا يوم يحصد النخل والعنب، والأخذ منهما زبيبا وتمرا، فكان كذلك كل ما يصلح بجفوف ودرس مما فيه الزكاة مما أخرجت الأرض. وهكذا زكاة ما أخرج من الأرض من معدن، لا يؤخذ حتى يصلح فيصير ذهبا أو فضة، ويؤخذ يوم يصلح. قال الشافعي: وزكاة الركاز يوم يؤخذ لأنه صالح بحاله لا يحتاج إلى إصلاح، وكله مما أخرجت الأرض. (الأم: 2/36-37. ون مختصر المنزني ص: 130 و ص: 48. وأحكام الشافعي: 1/103.)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله، وتنبيه منه لهم على موضع إحسانه، وتعريف منه لهم ما أحلّ وحرّم وقسمَ في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقّا. يقول تعالى ذكره: وربكم أيها الناس "أنْشَأ": أي أحدث وابتدع خلقا، لا الآلهة والأصنام، "جَنّاتٍ "يعني: بساتين، "مَعْرُوشاتٍ" وهي ما عرش الناس من الكروم، "وغيرَ مَعْرُوشاتٍ": غير مرفوعات مبنيات، لا ينبته الناس ولا يرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينميه... عن ابن عباس، قوله: مَعْرُوشاتٍ يقول: مسموكات...فالمعروشات: ما عَرَش الناس وغير معروشات: ما خرج في البرّ والجبال من الثمرات...

"والنّخْلَ وَالزّرْعَ مُخْتَلِفا أُكُلُهُ والزّيْتُونَ والرّمّانَ مُتَشابها وغيرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَره إذَا أثْمَرَ" يقول جلّ ثناؤه: وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله، يعني بالأُكل: الثمر، يقول: وخلق النخل والزرع مختلفا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحبّ والزيتون والرمان، متشابها وغير متشابه في الطعم، منه الحلو والحامض والمزّ... وأما قوله: "كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أْثمَرَ" فإنه يقول: كلوا من رطبه ما كان رطبا ثمره... "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبّ... عن الحسن، في قوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَاده" قال: الزكاة...

وقال آخرون: بل ذلك حقّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال، غير الصدقة المفروضة...

وقال آخرون: كان هذا شيئا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة، ثم نسخته الصدقة المعلومة، فلا فرض في مال كائنا ما كان زرعا كان أو غرسا، إلا الصدقة التي فرضها الله فيه... وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: كان ذلك فرضا فرضه الله على المؤمنين في طعامهم وثمارهم التي تخرجها زروعهم وغروسهم، ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة، والوظيفة المعلومة من العشر ونصف العشر وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم أن صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدياس والتنقية والتذرية، وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف. فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله جلّ ثناؤه: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ" ينبئ عن أنه أمر من الله جلّ ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده، وكان يوم حصاده هو يوم جدّه وقطعه والحبّ لا شكّ أنه في ذلك اليوم في سنبله، والثمر وإن كان ثمر نخل أو كرم غير مستحكم جفوفه ويبسه، وكانت الصدقة من الحبّ إنما تؤخذ بعد دياسه وتذريته وتنقيته كيلاً، والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام يبسه وجفوفه كيلاً، عُلم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حصده غير الذي يجب إيتاؤه المساكين يوم حصاده.

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك إيجابا من الله في المال حقا سوى الصدقة المفروضة؟ قيل: لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضا واجبا أو نفلاً، فإن يكن فرضا واجبا فقد وجب أن يكون سبيله سبيل الصدقات المفروضات التي من فرّط في أدائها إلى أهلها كان بربه آثما ولأمره مخالفا، وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجب وجوب الزكاة سوى ما يجب من النفقة لمن يلزم المرء نفقته ما ينبئ عن أن ذلك ليس كذلك. أو يكون ذلك نفلاً، فإن يكن ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الخيار في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر، وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك ما ينبئ عن أن ذلك ليس كذلك. وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادا بها الندب، وكان غير جائز أن يكون لها مخرج في وجوب الفرض بها في هذا الوقت، علم أنها منسوخة. ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلاً على صحته، أنه جلّ ثناؤه أتبع قوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ" ومعلوم أن من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدر، أن القائم بأخذ ذلك ساستهم ورعاتهم. وإذا كان ذلك كذلك، فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك، والآخذ مجبرٌ، وإنما يأخذ الحقّ الذي فرض الله فيه؟.

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القّيمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدّي في مال ربّ المال والتجاوز إلى أخذ ما لم يبح له أخذه، فإن آخر الآية، وهو قوله: "وَلا تُسْرِفُوا" معطوف على أوّله وهو قوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ"، فإن كان المنهي عن الإسراف القيم بقبض ذلك، فقد يجب أن يكون المأمور بإيتائه المنهي عن الإسراف فيه، وهو السلطان. وذلك قولٌ إن قاله قائل، كان خارجا من قول جميع أهل التأويل ومخالفا المعهود من الخطاب، وكفى بذلك شاهدا على خطئه...

"وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ" اختلف أهل التأويل في الإسراف الذي نهى الله عنه بهذه الآية، ومن المنهي عنه؛ فقال بعضهم: المنهيّ عنه: ربّ النخل والزرع والثمر، والسرف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف بربّ المال...

وقال آخرون: الإسراف الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربّ المال بإيتائه أهله بقوله: "وآتُوا حَقّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ"...

وقال آخرون: إنما خوطب بهذا السلطان: نهي أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله...

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: "ولاَ تُسْرِفُوا" عن جميع معاني الإسراف، ولم يخصص منها معنى دون معنى. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الإسرف في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحقّ في العطية، إما بتجاوز حدّه في الزيادة وإما بتقصير عن حدّه الواجب، كان معلوما أن المفرق ماله مباراة، والباذله للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حدّ الله إلى ما كيفته له، وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه، وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: "وَلا تُسْرِفُوا" في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم، إذ كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده، فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العامّ، بل عامة آي القرآن كذلك، فكذلك قوله: "وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ"...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وهو الذي أنشأ جنات معروشات} ذكر هذا، والله أعلم، مقابل ما كان منهم من تحريم ما أحل الله لهم، ورزقهم من الحرث والزرع والأنعام والانتفاع بها، فقال: {أنشأ جنات} وبساتين، من تأمل فيها، وتفكر، عرف أن منشئها مالك حكيم مدبر؛ لأنه ينبتها. ويخرجها من الأرض، في لحظة ما لو اجتمع الخلائق على تقديرها أن كيف خرج؟ وكم خرج؟ وأي قدر ثبت؟ ما قدروا على ذلك كقوله تعالى: {وأنبتنا فيها من كل شيء موزون} [الحجر: 19]. ويخرج من الورد والثمار على ميزان واحد ما لو جهدوا كل الجهد أن يعرفوا الفضل والتفاوت بين الأوراق والثمار ما قدروا، وما وجدوا فيها تقاربا. ويخرج أيضا كل عام من الثمار والأوراق ما يشبه العام الأول. فدل ذلك كله أن منشئها ومحدثها مالك حكيم، وضع كل شيء موضعه، وأن ما أنشأ أنشأ لحكمة وتدبير لم ينشئها عبثا؛ فله الحكم والتدبير في الحل والحرمة والقسمة، ليس لأحد دونه حكم ولا تدبير في التحريم والتحليل: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا لهذا، وهذا لهذا 1498؛ إنما ذلك إلى مالكها فخرج هذا، والله أعلم، يقابل ما كان منهم من قوله تعالى: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} [الأنعام: 138] [وقوله تعالى] 1499: {وهذا لشركائنا} [الأنعام: 136] وقوله تعالى {وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه} [الأنعام: 138] وغير ذلك من الآيات التي كانت فيها ذكر حكمهم 1500 على الله وإشراك أنفسهم في حكمهم. ثم اختلف في قوله: {معروشات} قيل: {معروشات} 1501 مبسوطات: ما تنبت منبسطا على وجه الأرض

{وغير معروشات}: ما يقوم بساقه، لا ينبسط على الأرض... {والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه} منها ما يكون متشابها في اللون مختلفا في الأكل والطعم، ومنها ما يكون مختلفا في اللون والمنظر متشابها في الطعم الأكل ليعلموا أن منشئها واحد وأنه حكيم؛ أنشأها على حكمة، وأنه مدبر؛ أنشأها عن تدبير؛ لم ينشئها عبثا... وقوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر} ولا تحرموا؛ خرج على مقابلة ما كان منهم من التحريم؛ أي كلوا منها، ولا تحرموا ليضيع ويفسد...

وقيل في قوله تعالى: {ولا تسرفوا} أي: لا تمنعوا الأكل، ولكن كلوا من بعضه، وآتوا حقه من بعضه،... والإسراف هو الذي لا ينتفع به أحد، وما كانوا جعلوا لشركائهم لا ينتفعون به هم، ولا انتفع به أحد، يكون مقابل قوله تعالى: {هذه أنعام وحرث حجر} الآية [الأنعام: 138]...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول، وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة، ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة، وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة. والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم، وقلة محصولهم، وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم، والاغترار بشبهاتهم فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي، وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال: {وهو الذى أنشأ جنات معروشات}. واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة، وهو قوله: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع، وهي: الزرع والنخل، وجنات من أعناب والزيتون والرمان، وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب، ثم النخل، ثم الزرع، ثم الزيتون ثم الرمان وذكر في الآية المتقدمة {مشتبها وغير متشابه} وفي هذه الآية {متشابها وغير متشابه} ثم ذكر في الآية المتقدمة {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم، وذكر في هذه الآية {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} فأذن في الانتفاع بها، وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء، فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم. وههنا أذن في الانتفاع بها، وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية. والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء، والأول أولى بالتقديم، فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها...

ثم قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر} وفيه مباحث. البحث الأول: أنه تعالى لما ذكر كيفية خلقه لهذه الأشياء ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها، وهو انتفاع المكلفين بها، فقال: {كلوا من ثمره} واختلفوا ما الفائدة منه؟ فقال بعضهم: الإباحة. وقال آخرون: بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق، لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه، كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المساكين فيه، بل هذا هو الظاهر فأباح تعالى هذا الأكل، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعا من هذا التصرف. وقال بعضهم: بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل وإما التصدق، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق، لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير. قال تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه الآيات إلى تمام العشر بعدها في تتمة سياق مسألة تحريم المشركين ما لم يحرم الله تعالى من الأنعام وغيرها من الأغذية وما يتعلق به، وقد قلنا إنه ذكر في هذه السورة المنزلة في أصول الدين وما يقابلها من أصول الشرك والكفر لأنه من هذه الأصول لا لمجرد كونه من جهالاتهم وضلالاتهم العملية. ذلك بأن أصل الدين الأعظم توحيد الله تعالى باعتقاد الألوهية والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع بأن نؤمن بأنه لا رب ولا خالق غيره ولا إله يعبد معه أو من دونه ولا شارع سواه لعبادة ولا حلال ولا حرام، وفي هذه العقيدة منتهى تكريم الإنسان فتأمل ذلك كله في هذه الآيات البينات. {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} الإنشاء: إيجاد الأحياء وتربيتها، وكذا كل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب وكتب العلم والشعر والدور. والجنات البساتين والكروم الملتفة الأشجار بحيث تجن الأرض وتسترها. والمعروشات: المسموكات على العرائش وهي ما يرفع من الدعائم ويجعل عليها مثل السقوف من العيدان والقصب. ومادة عرش تدل على الرفع ومنها عرش الملك.

والمعروشات معروفة عند العامة والخاصة يقال عرش دوالي العنب عرشا وعروشا وعرشها تعريشا إذا رفعه على العريش. ويقال عرشت الدوالي تعرش (بكسر الراء) إذا ارتفعت بنفسها. وعن ابن عباس أن المعروشات ما يعرش من الكرم وغيره وغير المعروشات ما لا يعرش منها. وفي رواية عنه أن الأول ما عرش الناس أي في الأرياف والعمران والثاني ما خرج في الجبال والبرية من الثمرات.

والمعهود أن الكرم منه ما يعرش ومنه ما يترك منبسطا على الأرض وكله من جنس المعروشات التي أودع الله فيها خاصية التسلق والاستمساك بما تتسلق عليه من عريش مصنوع أو شجر أو جدار ونحوه فالمتبادر من صيغة الجمع في القسمين أن المراد بالأول أنواع المعروشات بالقوة كالكرم وإن لم يوجد ما تعرش عليه بالفعل وبالثاني غير المعروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوي على سوقه ولا يتسلق على غيره، وخصهما بعضهم بالكرم، وعلى هذا يكون عطف النخل عليه وقرنه به لأنه قسيمه في كون ثمرها من أصول الأقوات وقرينه فيما سيأتي بيانه من الفوائد والشبه.

وأما على القول بأن النخل من قسم الجنات غير المعروشات فيكون ذكره تخصيصا له من أفراد العام لما فيه من المنافع الكثيرة ولا سيما للعرب فإن يسره ورطبه فاكهة وغداء، وتمره من أفضل الأقوات التي تدخر، وأيسرها تناولا في السفر والحضر ليس فيه مؤنة ولا يحتاج إلى طبخ ولا معالجة، ونواه علف للرواحل، ولهم منه شراب حلال لذيذ إذا نبذ في الماء زمنا قليلا وهو النبيذ أي النقوع وكان أكثر خمرهم منه ومن بسره (ولا منة في الرجس) دع ما في جريد النخل وليفه من المنافع والفوائد فهو بمجموع هذه المزايا يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه وأشبه به شكلا ولونا في عنبه وزبيبه ومنافعه تفكها وتغذيا وتحليا وشربا.

ثم عطف عليه الزرع وهو النبات الذي يكون بحرث الناس وهو عام لكل ما يزرع على القول بالعموم فيما قبله. وأما على القول بتخصيص الجنات بالكرم فينبغي أن يخص بما يأتي منه القوت كالقمح والشعير ويكون ترتيب المعطوفات على طريقة الترقي من الأدنى في التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم فإن الحبوب هي التي عليها معول أكثر البشر في أقواتهم وهذا عكس الترتيب في قوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه} (الأنعام 98) فترتيب الأقوات في هذه الآية على طريق التدلي من الأعلى في الاقتيات إلى الأدنى فالأدنى، والفرق بينهما أن هذه جاءت في مقام سرد الآيات الكونية على وحدانية الله وقدرته وحكمته ورحمته بعباده. وقبلها آيات في آياته في العالم العلوي وفي خلق الإنسان وهو دونه وعالم النبات أدنى منهما فروعي التدلي في أنواعه كما روعي فيما بينه وبين ما قبله.

والمقام في الآية التي نفسرها وما بعدها مقام ذكر الأقوات لبيان شرع منشئها في إباحتها في مقابلة ضلال المشركين فيما ذكر قبلها من التحليل والتحريم بأهواء الشرك وهو قوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا...} (الأنعام 136) فقدم هناك الحرث على الأنعام لأن ضلالهم فيه أقل من ضلالهم فيها وجرى هنا على الترتيب فذكر الحرث أولا لما ذكر وترقى إلى ذكر الأنعام لكثرة ضلالهم فيها وما يحتاج إليه من تفضيل القول الحق في ذلك، وهو انتقال من المهم إلى الأهم في المعنى المراد وتأخير لما اقتضت الحال إطالة القول فيه على الأصل. فحسن الترقي في ذكر أنواع الأقوات النباتية تفصيلا كما حسن فيها بينها بجملتها وبين الأقوات الحيوانية. ولما ذكرنا من اختلاف المقام في الآيتين قال في آية: {انظروا إلى ثمره} (الأنعام 99) وقال هنا {كلوا من ثمره} ولم أر أحدا تعرض لهذه النكت هنا.

أنشأ تعالى ما ذكر {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} الأكل: ما يؤكل... والضمير فيه قيل إنه راجع إلى الزرع ومنه يعلم حكم ما قبله وقيل بالعكس، والأرجح أنه راجع إلى كل ما قبله. والمعنى أنه أنشأ ما ذكر من الجنات والنخل والزرع حال كونه مختلفا ثمره الذي يؤكل منه في شكله ولونه وطعمه وريحه عندما يوجد أي قدر ذلك فيه عند إنشائه،...

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم، قاله ابن جريج، قيل إن المراد التشابه بين الزيتون والرمان في شكل الورق دون الثمر، وقيل بل المراد ما بين أنواع الرمان من التشابه في الشجر والثمر مع التفاوت في الطعم من حلو وحامض ومر وفي لون الحب من أحمر قاني قمد أو فقاعي وأبيض ناصع أو أزهر مشرب بحمرة. ويراجع في هذا وفي مكان الزيتون والرمان مما ذكر قبله تفسير الآية (98) من هذه السورة ومنه تعلم وجه تخصيص هذين النوعين بالذكر.

{كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي كلوا من ثمر ذلك الذي ذكر من أول الآية على ما اخترناه في قوله مختلفا أكله وسيأتي معنى هذا الشرط. وقد قالوا إن الأمر هنا للإباحة أي بعد أن آذن الله تعالى عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما في الأرض من الشجر والنبات الذي يستغلون منه أقواتهم آذنهم بأنه أباحه كله لهم فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم، لأن التحريم حق للرب الخالق للعباد والأقوات جميعا فمن انتحله لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، ومن أذعن لتحريم غير الله وأطاعه فيه فقد أشركه معه سبحانه وتعالى، كما علم من تفسير الآيات التي قبل هذه ويؤكده ما في الآيات بعدها والكلام في التحريم الديني كما هو ظاهر. وأما منع بعض الناس من بعض هذا الثمر لسبب غير التشريع الديني فلا شرك فيه، وقد يوافق بعض أدلة الشرع فيكون منعا شرعيا أي تحريما كمنع الطبيب بعض المرضى من أكل الخبز أو الثمر لأنه يضره، فمن ثبت عنده بشهادة الطبيب الثقة أن التمر يضره مثلا حرم عليه أن يأكله، وهذا التحريم ليس تشريعا من الطبيب بل الله تعالى هو الذي حرم كل ضار وإنما الطبيب معرف للمريض بأنه ضار فلا فرق بينه وبين من يخبر بأن هذا الطعام قد طبخ بلحم الخنزير أو لحم كبش أهل به لغير الله فيحرم على كل من صدقه أكله ما لم يكن مضطرا إليه. وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطير في بعض الأحوال للمصلحة العامة كالحاجة إلى كثرته في حفظ بعض الزرع لأنه يأكل الحشرات المهلكة له مثلا. ولكن مثل هذين ليس تحريما ذاتيا لما ذكر يدوم بدوامه بل موقت بدوام سببه، ولا هو مبني على أن للسلطان أن يحرم بمحض إرادته وإنما هو مكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد فإذا أخطأ في اجتهاده بشيء من ذلك وجب على الأمة الإنكار عليه ووجب عليه الرجوع إلى الحق.

وقوله: {إذا أثمر} لإفادة أن أول وقت إباحة الأكل وقت اطلاع الشجر الثمر والزرع الحب لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع، وفي آية أخرى كلوا من {ثمره إذا أثمر وينعه} (الأنعام 99} فالكرم ينتفع به بثمره حصرما فعنبا فزبيبا، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا، والقمح يؤكل حبه فريكا قبل يبسه وأكله برا مطبوخا أو طحنه وجعله خبزا. وقيل إن المراد إباحة الأكل منه قبل أداء حقه الذي أمر به في قوله:

{وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي وأعطوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده في جملته بحسب العرف، لا كل طائفة منه ولا بعد تنقيته وفيه تغليب الحصاد الخاص بالزرع في الأصل فيدخل فيه جني العنب وصرم النخل، كتغليب الثمر فيما قبله لإدخال حب الحصيد فيه وهو في الأصل خاص بالشجر، وهذه مقابلة تشبه الاحتباك جديرة بأن تعد نوعا خاصا من أنواع البديع...

يعني أن هذا الأمر في الصدقة المطلقة غير المحدودة المعينة ويؤيده أن السورة مكية والزكاة المحدودة فرضت بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وقيل إنه في الزكاة المفروضة المحدودة في الأقوات التي هي العشر وربع العشر... ويرد عليه الإجماع على أن السورة مكية ولم يصح استثناء هذه الآية منها إلا أن يقال: مرادهم أن الإطلاق فيها قيد بعد الهجرة بالمقادير التي بينتها الزكاة كأمثالها من الآيات المكية التي ورد فيها الأمر بالزكاة، وقد صرح بعضهم بأن الزكاة المقيدة المعروفة نسخت فرضية الزكاة المطلقة والنسخ عند السلف أعم من النسخ في عرف الأصوليين فيدخل فيه تخصيص العام... وهذا هو الصواب ومعناه نسخ فرضيتها المطلقة فلم يبق بعد فرض الزكاة المحدودة إلا صدقة التطوع كما هو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما سأله بعد أن أخبره بالزكاة المفروضة: هل علي غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم "لا إلا أن تطوع "396 على أن الزكاة المحدودة المعينة لا يمكن أداؤها يوم الحصاد وما تأولوه في ذلك فهو تكلف. فإن قلت أليس إطعام المعدم المضطر واجبا على من علم بحاله؟ قلنا الكلام في الحق الواجب على الأعيان في الأموال بشروطها المعروفة، وإغاثة المضطر من الواجبات الكفائية العارضة لا العينية الثابتة. والحصاد بفتح الحاء وكسرها مصدر حصد الزرع إذا جزه أي قطعه كما قال في الأساس قرأه ابن كثير ونافع وحمزة بالكسر والباقون بالفتح...

وقوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فيه ثلاثة أوجه تقدير الأول كلوا مما رزقكم الله ولا تسرفوا في الأكل كقوله تعالى في سورة الأعراف: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف 31) وهو في معنى ما تقدم في سورة المائدة: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (المائدة 87) فالإسراف مجاوزة الحد والاعتداء كذلك والحد الذي ينهى عن تجاوزه إما شرعي كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما تعلق بهما إلى الحرام، وإما فطري طبعي وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة. والوجه الثاني: لا تسرفوا في الصدقة أي في أمرها،... وجعل بعضهم الإسراف في أمر الصدقة منعها فعن سعيد ابن المسيب في قوله: {ولا تسرفوا} قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا. وجعله بعضهم خاصا بالحكام الذين يأخذون الصدقات...

والوجه الثالث: أن النهي عام يشمل الإسراف في أكل الإنسان من ماله بغير سرف وفي إنفاقه على غيره من صدقة وغيرها، فالإسراف مذموم في كل شيء...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

...وهذه الآية تتضمن الإشارة إلى ما خلقه الله من أنواع النبات المختلفة، ما ينبت منها دون تدخل ولا عناية خاصة من جانب الإنسان، وما ينبت منها متوقفا على تجربة الإنسان التي هداه الله إليها، وعلى عنايته الخاصة {معروشات وغير معروشات} كما تتضمن نفس الآية الإشارة إلى ما أنشأه الله في النبات من مختلف الأنواع والأشكال والألوان والطعوم {مختلفا أكله} {متشابها وغير متشابه} مما هو دليل القدرة الواسعة، والنعمة السابغة، ثم قال تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} فدعا خلقه أولا إلى تناول ما أنعم به عليهم من النبات والثمرات لفائدتهم ولتغذيتهم، ولقضاء حاجاتهم المتنوعة، والمتفرعة على نجاح عملية الإنبات والإثمار، ودعا خلقه ثانيا إلى القيام بأداء حق الله في نفس تلك النباتات ونفس تلك الثمرات و "حق الله "هو في الحقيقة حق الضعفاء من خلقه، من الفقراء والمساكين، وكافة المحتاجين، وإنما أطلق عليه "حق الله" ضمانا منه سبحانه وتعالى لحقوق الضعفاء والمحرومين، حتى يكون من ضيع حقهم إنما ضيع حق الله، ومن أهمل شأنهم إنما أهمل شأن الله، وهو سبحانه الذي يتولى حسابه العسير، على النقير والقطمير {وكفى بالله حسيبا}. ثم قال تعالى: في نفس السياق {ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين} تنبيها إلى أمرين اثنين: الأمر الأول هو إرشاد إلى عدم الإسراف في الأكل من الثمرات والنباتات، وهذا يتضمن إرشادا إلهيا صحيا متعلقا بصحة المؤمن العامة، وسلامة جسمه، وثقوب ذهنه، فمن لم يسرف في الأكل وتوابعه، ولم يأخذ منه أكثر من حاجته تمتع بجسم سليم وعقل سليم، ومن أسرف في الأكل وتوابعه أسرع بخطاه إلى العطب والهلاك جسما وعقلا، وهذا المعنى يؤكده قوله تعالى في آية أخرى {وكلوا واشربوا، إنه لا يحب المسرفين} وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة). والأمر الثاني هو الإرشاد إلى عدم الإسراف في الحقوق الاجتماعية التي جعلها الله للغير، وإلى عدم التوسع فيها أكثر من المطلوب، إذا كان ذلك على حساب الحقوق الأخرى التي جعلها الله للنفس والأهل والعيال، وهذا يتضمن إرشادا إلهيا له مساس بحياة الفرد الاقتصادية...