قوله تعالى : { قال } ، يعني ذا القرنين ، { هذا } أيظ : السد { رحمة } نعمة { من ربي فإذا جاء وعد ربي } ، قيل : القيامة . وقيل : وقت خروجهم . { جعله دكاء } ، قرأ أهل الكوفة { دكاء } بالمد والهمز ، أي : أرضاً ملساء ، وقرأ الآخرون بلا مد ، أي : جعله مدكوكاً مستوياً مع وجه الأرض ، { وكان وعد ربي حقاً } .
وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة يرفعه : أن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً فيعيده الله كما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله ، واستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه فيخرجون على الناس ، فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فيرجع فيها كهيئة الدم ، فيقولون : قدرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليها نغفاً في أقفائهم فيهلكون ، وإن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا محمد بن مهران الرازي ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : ما شأنكم ؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال ذات غداة فخفضت فيه ورفعت ، حتى ظنناه في طائفة النخل ، فقال : غير الدجال أخوفني عليكم ؟ إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، إنه شاب قطط عينه اليمنى طافية ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلةً بين الشام والعراق ، فعاث يميناً وعاث شمالاً ، يا عباد الله ! فاثبتوا قلنا : يا رسول الله فما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوماً يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا ، اقدروا له قدره ، قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطرا والأرض ، فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرىً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، قال : فينصرف عنهم ، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة ، فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك ، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي باب دمشق ، بين مهرب ودستين ، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لدً فيقتله ، ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرةً ماء ، ويحصر نبي الله وأصحابه ، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء ، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض ، حتى يتركها كالزلفة . ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي ألفا من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبةً ، فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة " .
وبهذا الإسناد حدثنا مسلم بن الحجاج ، ثنا علي بن حجر السعدي ، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، والوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بهذا الإسناد نحو ما ذكرنا " وزاد بعد قوله : لقد كان بهذه مرة ماء : ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس ، فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبةً دماً . وقال وهب : إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الخشب والشجر ، ومن ظفروا به من الناس ، ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا أحمد ، أنبأنا أبي ، أنبأنا إبراهيم عن الحجاج بن حجاج ، عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج " . وفي القصة : أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشهر زور . وذكر بعضهم : أن عمره كان نيفاً وثلاثين سنة .
ووقف ذو القرنين أمام هذا العمل العظيم ، مظهرا الشكر لله - تعالى - ، والعجز أمام قدرته - عز وجل - شأن الحكام الصادقين فى إيمانهم ، الشاكرين لخالقهم توفيقه إياهم لكل خير .
وقف ليقول بكل تواضع وخضوع لخالقه . . : { هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } .
أى : هذا الذى فعلته من بناء السد وغيره ، أثر من آثار رحمة ربى التى وسعت كل شئ .
{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } الذى حدده لفناء هذه الدنيا ونهايتها ، أو الذى حدده لخروجهم منه { جعله دكاء } أى : جعل هذا السد أرضا مستوية ، وصيره مدكوكا أى : بمساواة الأرض . ومنه قولهم : ناقة دكاء أى : لا سنام لها .
{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } أى : وكان كل ما وعد الله - تعالى - به عباده من ثواب وعقاب وغيرهما ، وعدا حقا لا يتخلف ولا يتبدل ، كما قال - سبحانه - :
{ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
وبذلك نرى فى قصة ذى القرنين ما نرى من الدروس والعبر والعظات ، التى من أبرزها . أن التمكين فى الأرض نعمة يهبها الله لمن يشاء من عباده . وأن السير فى الأرض لإِحقاق الحق وإبطال الباطل من صفات المؤمنين الصادقين ، وأن الحاكم العادل من صفاته : ردع الظالمين عن ظلمهم ، والإِحسان إلى المستقيمين المقسطين ، والعمل على ما يجعلهم يزدادون استقامة وفضلا ، وأن من معالم الخلق الكريم ، أن يعين الإِنسان المحتاج إلى عونه ، وأن يقدم له ما يصونه عن الوقوع تحت وطأة الظالمين المفسدين ، وأن من الأفضل أن يحتسب ذلك عند الله - تعالى - . وألا يطلب من المحتاج إلى عونه أكثر من طاقته .
كما أن من أبرز صفات المؤمنين الصادقين : أنهم ينسبون كل فضل إلى الله - تعالى - وإلى قدرته النافذة ، وأنهم يزدادون شكرا وحمداً له - تعالى - كلما زادهم من فضله ، وما أجمل وأحكم أن تختتم قصة ذى القرنين بقوله - تعالى - : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } .
ثم تسوق السورة الكريمة بعد قصة ذى القرنين آيات تذكر الناس بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتوبون ويتذكرون .
استمع إلى السورة الكريمة وهى تصور ذلك فتقول : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً . . . } .
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولم تسكره نشوة القوة والعلم . ولكنه ذكر الله فشكره . ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه . وتبرأ من قوته إلى قوة الله ، وفوض إليه الأمر ، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا .
( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء . وكان وعد ربي حقا ) . .
وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين . النموذج الطيب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في الأرض ، وييسر له الأسباب ؛ فيجتاح الأرض شرقا وغربا ؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر ، ولا يطغى ولا يتبطر ، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه . . إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به ، ويساعد المتخلفين ، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح ، ودفع العدوان وإحقاق الحق . ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله ، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته ، وأنه راجع إلى الله .
وبعد فمن يأجوج ومأجوج ? وأين هم الآن ? وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون !
كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن ، وفي بعض الأثر الصحيح .
والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين : ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقا ) .
وهذا النص لا يحدد زمانا . ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار ، وانساحوا في الأرض ، ودمروا الممالك تدميرا .
وفي موضع آخر في سورة الأنبياء : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق . . . ) .
وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد الحق بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول [ ص ] فجاء في القرآن : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر . فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون ، يراها البشر طويلة مديدة ، وهي عند الله ومضة قصيرة .
وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين : ( اقتربت الساعة ) ويومنا هذا . وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج .
وهناك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها حبيبة ، عن زينب بنت جحش - زوج النبي [ ص ] - قالت : استيقظ الرسول [ ص ] من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول : " ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وحلق [ بإصبعيه السبابة والإبهام ] . قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ? قال " نعم إذا كثر الخبيث " .
وقد كانت هذه الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن . وقد وقعت غارات التتار بعدها ، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين . وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول [ ص ] وعلم ذلك عند الله . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
وقوله : { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : لما بناه ذو القرنين { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث{[18531]} في الأرض والفساد . { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي : إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي : ساواه{[18532]} بالأرض . تقول العرب : ناقة دكاء : إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها . وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } [ الأعراف : 143 ] أي : مساويًا للأرض{[18533]} .
وقال عكرمة في قوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } قال : طريقًا كما كان .
{ قال هذا } هذا السد أو الأقدار على تسويته . { رحمة من ربي } على عباده . { فإذا جاء وعد ربّي } وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة . { جعله دكاً } مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض ، مصدر بمعنى مفعول ومنه جمل أدك لمنبسط السنام . وقرأ الكوفيون دكاء بالمد أي أرضا مستوية . { وكان وعد ربي حقا } كائنا لا محالة وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .
جملة { قال هذا رحمة من ربي } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء حكاية وصف الردم كان ذلك مثيراً سؤال من يسأل : ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم ؟ فيجاب بجملة : { قال هذا رحمة من ربي } .
والإشارة بهذا إلى الرّدم ، وهو رحمة للناس لما فيه من ردّ فساد أمّة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة .
و ( من ) ابتدائية ، وجعلت من الله لأنّ الله ألهمه لذلك ويسرّ له ما هو صعب .
وفرع عليه { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً } نطقاً بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال . ولأنه علم أن عملاً عظيماً مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام ، وعلم أنّ ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيص منه لكلّ ذي سلطان .
والوعد : هو الإخبار بأمر مستقبل . وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم ، فاستعار له اسم الوعد . ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيئاً أو ألهمه إن كان صالحاً أن لذلك الردم أجلاً معيناً ينتهي إليه .
وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم « فُتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا ، وعقد بين أصبعيه الإبهام والسبابة » كما تقدم .
والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة ، أي جعله مدكوكاً ، أي مسوّى بالأرض بعد ارتفاع . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف { جَعلهُ دَكّاءَ } بالمد . والدكاء : اسم للناقة التي لا سنام لها ، وذلك على التشبيه البليغ .
وجملة { وكان وعد ربي حقاً } تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و { لكل أمة أجل } [ يونس : 49 ] أي وكان تأجيل الله الأشياء حقاً ثابتاً لا يتخلف . وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلاً بديعاً .