79- فالهلاك والعذاب لهؤلاء الأحبار الذين يكتبون كتباً بأيديهم ، ثم يقولون للأميين : هذه هي التوراة التي جاءت من عند الله ، ليصلوا من وراء ذلك إلى غرض تافه من أغراض الدنيا فيشتروا التافه من حطام الدنيا بثمن غال وعزيز هو الحقيقة والصدق ، فويل لهم مما تقوَّلوه على الله ، وويل لهم مما يكسبون من ثمرات افترائهم .
قوله تعالى : { فويل } . قال الزجاج : ويل كلمة تقولها العرب لكل واقع في هلكة ، وقيل : هو دعاء الكفار على أنفسهم بالويل والثبور ، وقال ابن عباس : شدة العذاب ، وقال سعيد بن المسيب : ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدة حرها .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر محمد بن أحمد ابن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن المبارك ، عن رشيد بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، أنه حدث عن أبي السمع ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ، والصعود جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فهو كذلك " .
قوله تعالى : { للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً } . وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة ، وكانت صفته فيها : حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ، ربعة القامة ، فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر ، فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرؤوا ما كتبوه فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه .
قوله تعالى : { فويل لهم مما كتبت أيديهم } . يعني كتبوه بأنفسهم اختراعاً من تغيير نعته صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وويل لهم مما يكسبون } . من المآكل ويقال : من المعاصي .
وبعد أن بين القرآن الكريم فرق اليهود ، توعد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه بسوء المصير فقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } :
والمعنى : فهلاك وفضيحة وخزى لأولئك الأحبار من اليهود الذين يكتبون الكتابات المحرفة والتأويلات الفاسدة بأيديهم ، بدلا مما اشتملت عليه الكتب من حقائق ، ثم يقولون لجهالهم ومقلديهم كذباً وبهتاناً هذا من عند الله ، ومن نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ليأخذوا في نظير ذلك عرضاً يسيراً من حطام الدنيا ، فعقوبة عظيمة لهم بسبب ما قاموا به من تحريف وتبديل لكلام الله ، وخزى كبير لهم من أجل ما اكتسبوه من أموال بغير حق .
فالآية الكريمة فيها تهديد شديد لأحبار اليهود الذين تجرءوا على كتاب الله بالتحريف والتبديل ، وباعوا دينهم بدنياهم ، وزعموا أن ما كتبوه هو من عند الله .
وصرح - سبحانه - بأن الكتابة ب { أَيْدِيهِمْ } ليؤكد أنهم قد باشروها عن تعمد وقصد ، وليدفع توهم أنهم أمروا غيرهم بكتابتها ، ولتصور حالتهم في النفوس كما وقعت ، حتى ليكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً لهيئتهم .
وقوله تعالى : { ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله } كشف عن كذبهم وفجورهم ، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ثم يزعمون أنه من عند الله ليتقبله أتباعهم بقوة واطمئنان .
ثم بين - سبحانه - العلة التي حملنه على التحريف والكذب فقال تعالى : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي كتبوا الكتابة بأيديهم ، ونسبوها إلى الله زوراً وبهتاناً ؛ ليحصلوا على عرض قليل من أعراض الدنيا ، كاجتلاب الأموال الحرام ، وانتحال العلم لأنفسهم والطمع في الرئاسة والجاه ، وإرضاء العامة بما يوافق أهواءهم .
وعبر - سبحانه - عن الثمن بأنه قليل ، لأنه مهما كثر فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب ، وحرموه من الثواب المقيم .
وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } تهديد لهم مرتب على كتابة الكتاب المحرف ، وعلى أكلهم أموال الناس بالباطل ، فهو وعيد لهم على الوسيلة - وهي الكتابة - وعلى الغاية - وهي أخذ المال بغير حق - .
قال الشيخ القاسمي : قال الراغب : فإن قيل : لم ذكر { يَكْسِبُونَ } بلفظ المستقبل ، و { كَتَبَتْ } بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيهاً على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فنبه بالآية إلى أن ما أثبتوه من التأويلات الفاسدة التي يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا ، وعبر بالكتابة دون القول لأنها متضمنة له وزيادة ، فهي كذب باللسان واليد . وكلام اليد يبقى رسمه ، أما القول فقد يضمحل أثره " .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود برذيلة التحريف لكلام الله عن تعمد وإصرار ووصفتهم بالنفاق والخداع ، ووبختهم على بلادة أذهانهم وسوء تصورهم لعلم الله - تعالى - وتوعدتهم بسوء المصير جزاء كذبهم على الله .
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ )
فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحق ، وأن يستقيموا على الهدى ، وأن يتحرجوا من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم نفسه ؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا للمسلمين . وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم . الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير على الله ؛ والويل والهلاك لهم مما يكسبون بهذا التزوير والاختلاق !
وقوله : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } الآية : هؤلاء صنف{[2059]} آخر من اليهود ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل .
والويل : الهلاك والدمار ، وهي كلمة مشهورة في اللغة . وقال سفيان الثوري ، عن زياد بن فياض : سمعت أبا عياض يقول : ويل : صديد في أصل جهنم .
وقال عطاء بن يسار . الويل : واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ويل واد في جهنم ، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره " .
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن دراج ، به{[2060]} . وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة .
قلت : لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ، ولكن الآفة ممن بعده ، وهذا الحديث بهذا الإسناد - مرفوعًا - منكر ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح العشيري{[2061]} حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي ، عن عثمان بن عفان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } قال : " الويل جبل في النار . وهو الذي أنزل في اليهود ؛ لأنهم حَرَّفوا التوراة ، زادوا فيها ما أحبوا ، ومحوا منها ما يكرهون ، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة . ولذلك غضب الله عليهم ، فرفع بعض التوراة ، فقال : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }{[2062]} . وهذا غريب أيضا جدًا .
[ وعن ابن عباس : الويل : السعير من العذاب ، وقال الخليل بن أحمد : الويل : شدة الشر ، وقال سيبويه : ويل : لمن وقع في الهلكة ، وويح لمن أشرف عليها ، وقال الأصمعي : الويل : تفجع والويل ترحم ، وقال غيره : الويل الحزن{[2063]} . وقال الخليل : وفي معنى ويل : ويح وويش وويه وويك وويب ، ومنهم من فرق بينها ، وقال بعض النحاة : إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة ؛ لأن فيها معنى الدعاء ، ومنهم من جوز نصبها ، بمعنى : ألزمهم ويلا . قلت : لكن لم يقرأ بذلك أحد ]{[2064]} .
وعن عكرمة ، عن ابن عباس : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } قال : هم أحبار اليهود . وكذا قال سعيد ، عن قتادة : هم اليهود .
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن علقمة : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } قال : نزلت في المشركين وأهل الكتاب .
وقال السدي : كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم ، يبيعونه من العرب ، ويحدثونهم أنه من عند الله ، ليأخذوا{[2065]} به ثمنًا قليلا .
وقال الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس أنه قال : يا معشر المسلمين ، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه ، أحدث أخبار الله تقرؤونه{[2066]} محضًا{[2067]} لم يشب ؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا ؛ أفلا{[2068]} ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم ؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم . رواه البخاري{[2069]} من طرق عن الزهري .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : الثمن القليل : الدنيا بحذافيرها .
وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } أي : فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب{[2070]} والبهتان ، والافتراء ، وويل لهم مما أكلوا به من السحت ، كما قال الضحاك عن ابن عباس : { فَوَيْلٌ لَهُمْ } يقول : فالعذاب عليهم ، من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب ، { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } يقول : مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم .
{ فويل } أي تحسر وهلك . ومن قال إنه واد أو جبل في جهنم فمعناه : أن فيها موضعا يتبوأ فيه من جعل له الويل ، ولعله سماه بذلك مجازا . وهو في الأصل مصدر لا فعل له وإنما ساغ الابتداء به نكرة لأنه دعاء . { للذين يكتبون الكتاب } يعني المحرفين ، ولعله أراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة . { بأيديهم } تأكيد كقولك : كتبته بيميني { ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا } كي يحصلوا به عرضا من أعراض الدنيا ، فإنه وإن جعل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدائم . { فويل لهم مما كتبت أيديهم } يعني المحرف . { وويل لهم مما يكسبون } يريد به الرشى .
الفاء للترتيب والتسبب فيكون ما بعدها مترتباً على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [ البقرة : 74 ] الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرُتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة ، أو رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم ، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه إعادة تفصيل .
ومعنى : { يكتبون الكتاب بأيديهم } أنهم يكتبون شيئاً لم يأتهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه كما دل عليه قوله : { ثم يقولون هذا من عند الله } المشعر بأن ذلك قولهم : بأفواههم ليس مطابقاً لما في نفس الأمر .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو المقصود . وليس هذا القول متراخياً عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان .
والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر ، وقال ابن جني : هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صُرِّف لوجوب اعتلال فائه وعينه بأن يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلاً ، والويلة : البلية . وهي مؤنث الويل قال تعالى : { قالوا يا ويلتنا } [ الكهف : 49 ] وقال امرىء القيس :
*فقالت لك الويلات إنَّك مُرْجِلِي*
ويستعمل الويل بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى : { قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين } [ الأنبياء : 14 ] كما يقال يا حسرتا .
فأما موقعه من الإعراب فإنه إذا لم يضف أُعْرِب إعرابَ الأسماء المبتدإِ بها وأُخْبر عنه بلام الجر كما في هذه الآية وقوله : { ويل للمطففين } [ المطففين : 1 ] قال الجوهري : وينصب فيقال : ويلاً لزيد ، وجعل سيبويه ذلك قبيحاً وأوجب إذا ابتدىء به أن يكون مرفوعاً ، وأما إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالباً كقوله تعالى : { ويْلَكم ثوابُ الله خير لمن آمن } [ القصص : 80 ] وقوله : { وَيْلك آمِن } [ الأحقاف : 17 ] فيكون منصوباً وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير : « وَيْلُ أمِّه مِسْعَرَ حَرْبٍ »
ولما أشبه في إعرابه المصادر الآتية بدلاً من أفعالها نصباً ورفعاً مثل : حمداً لله وصبرٌ جميل كما تقدم عند قوله تعالى : { الحمدُ لله } [ الفاتحة : 2 ] قال أكثر أئمة العربية : إنه مصدر أُميتَ فعله ، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبَهَ في حالة الإضافة نصباً على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل وَيلَه يا ويله بدليل ظهور حرف النداء معه في كلامهم . وربما جعلوه كالمندوب فقالوا : ويْلاَه وقد أعربه الزجاج كذلك في سورة طه . ومنهم من زعم أنه إذا نصب فعلى تقدير فعل ، قال الزجاج في قوله تعالى : { ويْلَكم لا تفتروا على الله كذباً } [ طه : 61 ] في طه يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلاً . وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وَيْ بمعنى الحُزن ومن مجرورٍ باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وَيْ صيروهما حرفاً واحداً فاختاروا فتح اللام كما قالوا يَالَ ضَبَّةَ ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة . وهو يستعمل دعاء وتعجباً وزجراً مثل قولهم : لا أب لك ، وثكلتك أمك . ومعنى : { فويل للذين يكتبون الكتاب } دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر ، قال سيبويه : لا ينبغي أن يقال { ويل للمطففين } دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كُلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم . وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي وَيْح ووَيْس ووَيْب ووَيْه ووَيْكَ .
وذكر { بأيديهم } تأكيد مثل نَظَرْتُه بعيني ومثل : { يقولون بأفواههم } [ آل عمران : 167 ] وقوله : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون .
وقوله : { ليشتروا به ثمناً قليلاً } هو كقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتباً تافهة من القصص والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفاً سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم .
وقوله : { فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد ، وليس في الآية ثلاث وَيْلات كما قد توهم ذلك .
وكأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل فلما غزاهم بختنصر سنة 588 قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم اليهود فباعهم عبيداً في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود . ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت العهد ليكون هناك شاهداً عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في زمن طيطس سنة 40 للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم .
ولهذا اتفق المحققون من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم . وقد قال : ( لنجرك ) أحد اللاهوتيين من علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيماً بمصر في عهد الملك يوشيا ملك اليهود وقال غيره : إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير من علم صموئيل أو عزير ( عزرا ) . ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة . وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب اه . فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة عندهم منذ زمان .