قوله تعالى : { سلام عليكم } ، أي : يقولون سلام عليكم . قال مقاتل : سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافون منها . قال مقاتل : يدخلون علهم في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا الثلاث كرات معهم الهدايا والتحف من الله عز وجلن يقولون سلام عليكم ، { بما صبرتم فنعم عقبى الدار } .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن بقية بن الوليد ، حدثني أرطاة بن المنذر قال : سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوب . فيقبل ملك من ملائكة الله يستأذن ، فيقوم أقصى الخدم إلى الباب ، فإذا هو بالملك يستأذن ، فيقول للذي يليه : ملك يستأذن ويقول الذي يليه للذي يليه ملك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن ، فيقول : ائذنوا له ، فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا له ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا له كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له فيدخل ، فيسلم ثم ينصرف .
وجملة { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } مقول لقول محذوف ، وهو حال من فاعل يدخلون وهم الملائكة وهى بشارة لهم بدوام السلامة .
وفى قوله { بِمَا صَبَرْتُمْ } إشارة إلى أن صبرهم على مشاق التكاليف ، وعلى الأذى ، وعلى كل ما يحمد فيه الصبر ، كان على رأس الأسباب التي أوصلتهم إلى تلك المنازل العالية .
هذا ومن الأحاديث التي ذكرها الإِمام ابن كثير هنا ، ما رواه الإِمام أحمد - بسنده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم : قال : أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون ، الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتى هؤلاء فنسلم عليهم ؟
قال : إنهم كانوا عبادا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ، وتسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره ، فلا يستطيع لها قضاء . قال : فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ }
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } أي : عن المحارم والمآثم ، ففطموا{[15565]} نفوسهم عن ذلك لله عز وجل ؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها{[15566]} وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب ، من فقراء ومحاويج ومساكين ، { سِرًّا وَعَلانِيَةً } أي : في السر والجهر ، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال ، في آناء الليل وأطراف النهار ، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 34 ، 35 ] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ، ثم فسر ذلك بقوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } والعدن : الإقامة ، أي : جنات إقامة يخلدون{[15567]} فيها .
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له : " عدن " ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة{[15568]} لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .
وقال الضحاك في قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد والجنات حولها . رواهما ابن جرير .
وقوله : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه{[15569]} ترفع{[15570]} درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانًا من الله وإحسانا ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] . {[15571]}-{[15572]} وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } أي : وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند{[15573]} دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام ، والإقامة في دار السلام ، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا{[15574]} معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما{[15575]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون{[15576]} الذين تُسدُّ بهم الثغور ،
وتُتَّقَى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم . فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك ، وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا{[15577]} يشركون بي شيئًا ، وتُسَد{[15578]} بهم الثغور ، وتتقى{[15579]} بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء " . قال : " فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب ، { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }{[15580]} ورواه أبو القاسم الطبراني ، عن أحمد بن رشدين ، عن أحمد بن صالح ، عن عبد الله بن وهب ، عن عَمْرو بن الحارث ، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين ، الذين تتقى بهم المكاره ، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبحك الليل والنهار ، ونُقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا{[15581]} في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }{[15582]} وقال عبد الله بن المبارك ، عن بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا أرطأة بن المنذر ، سمعت رجلا من مشيخة الجند ، يقال له " أبو الحجاج " يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول [ أقصى الخدم ]{[15583]} للذي يليه : " مَلك يستأذن " ، ويقول الذي يليه للذي يليه : " ملك يستأذن " ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا . فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف . رواه ابن جرير . {[15584]} ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطأة بن المنذر ، عن أبي الحجاج{[15585]}
يوسف الألهاني قال : سمعت أبا أمامة ، فذكر نحوه .
وقد جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول ، فيقول لهم : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } وكذا أبو بكر ، وعمر وعثمان . {[15586]}
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة ، بأن لهم { عُقْبَى الدَّارِ } وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة .
وقوله : { ومن صلح } أي من عمل صالحاً وآمن - قاله مجاهد وغيره - ويحتمل : أي من صلح لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه .
وحكى الطبري في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها . والمعنى : يقولون : سلام عليكم ، فحذف - يقولون - تخفيفاً وإيجازاً ، لدلالة ظاهر الكلام عليه ، والمعنى : هذا بما صبرتم{[3]} ، والقول في { عقبى الدار } على ما تقدم من المعنيين .
وقرأ الجمهور «فنِعْم » بكسر النون وسكون العين ، وقرأ يحيى بن وثاب «فنَعِم » بفتح النون وكسر العين .
وقالت فرقة : معنى { عقبى الدار } أي أن أعقبوا الجنة من جهنم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل مبني على حديث ورد ، وهو : أن كل رجل في الجنة فقد كان له مقعد معروف في النار ، فصرفه الله عنه إلى النعيم ، فيعرض عليه ويقال له : هذا كان مقعدك فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك{[4]} .
جملة { سلام عليكم } مقول قول محذوف لأن هذا لا يكون إلا كلاماً من الداخلين . وهذا تحية يقصد منها تأنيس أهل الجنة .
والباء في { بما صبرتم } للسببية ، وهي متعلقة بالكون المستفاد من المجرور وهو { عليكم } . والتقدير : نالكم هذا التكريم بالسلام بسبب صبركم . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف مستفادٍ من المقام ، أي هذا النعيم المشاهد بما صبرتم .
والمراد : الصبر على مشاق التكاليف وعلى ما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم .
وفرع على ذلك { فنعم عقبى الدار } تفريع ثناء على حسن عاقبتهم . والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة مقام الخطاب عليه . والتقدير : فنعم عقبى الدار دارُ عُقْباكم . وتقدم معنى { عقبى الدار } آنفاً .